"ليبانون ديبايت" - روني ألفا

تشرِّفُنا الكوليرا من جسرِ الشُّغور في إدلب السورية بعد أن شرَّفَنا كوفيد من برازِ الوطاويطِ في يوهان الصينية. يروحُ العاشِقُونَ المتيَّمُونَ من دِيارِنا ويأتي إلينا المُشتاقونَ المُيَتَّمُونَ. مِن جائحةٍ إلى جائعَةٍ ومن نِضالٍ إلى عُضالٍ نُفتَرَسُ ويُنهَشُ لحمُنا ويُسفَكُ دَمُنا.

نحنُ أبطالُ فيلمٍ لبنانيٍّ طويل. دورُنا الخُروجُ من الحضارة والدخولُ في زمنِ " ماد ماكس ". دَرَجَ الفيلمُ في الثمانينات مصوِّرًا حقبةَ موتِ المدنيَّةِ وعودةِ الإنسانية إلى فوضى سدوم وعَمورة.

عمليًا كلُّنا أتباع ماكس. نتجوّل على متنِ "موتسيكات" في أزقّة سدوم وعمورة. نعيشُ في بلدٍ خسفَهُ الله عن الأطلس بسبب موبِقاتِ ومفاسِدِ أهلِه. لا نُغالي إذا قلنا بأننا ملطوشونَ بكوليرا أخلاقية لا لقاحَ لها. لم يسبقنا أحدٌ في الغشِّ والغشاشونَ ممحوقو البَرَكَة.

لا مناصِرينَ لهذا المَرَض وإلا لَكنّا قرأنا على حيطانِ المدينةِ " الكوليرا راجعة " لكنها عادَت من دونِ أدنى شَكٍّ برغمِ شَكِّ الإبَر. بحسبِ تطميناتِ وزيرِ الصحةِ فإنَّ كلَّ شَيْءٍ " أنْدِرْ كونترولْ ". مسألةُ وقتٍ قبل أن تصيرَ " آوتْ أوفْ كونترول ". وكيف لا ونحنُ نسقي ثلثَي خضارِنا وفاكهتِنا من نهرِ الليطاني؟ أكثرُ من ألفِ هيكتارٍ من أراضينا الزراعية ترويها مياهه الملوثة. خليطٌ مبدعٌ من بَولِ البعير وزبلِ البقر ودماءِ الذبائحِ تطفو على هذا النهر. على ضفافه ينتشر السرطان بين الناس. على سطحه تتزلّجُ النفايات. في مياهه يستوطنُ البَرازُ والسمكُ النافِقُ ونفاياتُ البشرِ التَّتَرِ وكلُّ مخلَّفاتِ كيمياءِ المصانع. مئةُ ألفِ لبنانيٍّ وسبعونُ ألفِ سوريٍّ يعيشونَ على ضفافِه مباشرةً حسبما تفيدُ شركاتُ إحصاءٍ مرموقة. يشربونَ ويسبحونَ ويسقونَ المحاصيل. كوليرا باب أوَّل!

كوليرا في السياسَةِ حتمًا. طبقةٌ سياسيةٌ مصابةٌ بعوارضِ الإسهال. إسهالٌ في الكرامةِ الوطنية. إلتهابٌ حادٌ في غِدَد المسؤولية. طحالب ما زالت تعيشُ لتخنقنا. عضوٌ واحِدٌ ما زال بحالةٍ جيدةٍ يستعملهُ السياسيونَ ببراعة. نكاحُ ذَوي القربى نتيجتُه.

أما نحنُ فنعيشُ ونأكلُ غيرها. اليوم نتحضَّرُ للكوليرا وربما غدًا للطاعونِ والجدري. قريبًا وتنقطعُ من الأسواقِ مساحيقُ التطهيرِ والتعقيمِ الخاصةِ بالخضارِ والفاكهة. هيا إلى شرائها قبل رفعِ أسعارِها. قريبًا أيضًا وتظهرُ مساحيقٌ جديدةٌ للتعقيم بأسعارٍ مدروسةٍ ليتبينَ أنها معبّأةٌ من مياهِ الليطاني. في وزارةِ الإقتصاد المعنية بالمتابعةِ مفتِّشون سيتابعونَ الوضعَ عن كثبٍ عندما يتوفرُ البنزين وتُرفَعُ بدلاتُ النقل.

راجَت موضةُ إحراقِ الجثثِ التي كان أصحابُها قد أُصيبوا بكورونا بالكلس. الكلسُ سلعةٌ سياديةٌ في بلادنا. يحمينا من الموتى. أفّ! لم يحدث أن خافَ شعبٌ بأكمله من مَوتى. وكأنه لا يكفينا الخوفُ من الأَحياء. أنتَ مُواطِنٌ خائف. تشاهدُ ما تبقّى من حياتكَ في لبنان كأنك تشاهد فيلمَ رعبٍ لهيتشكوك. لا تعلمُ متى تفتحُ برّادَ المطبخِ فتشاهدُ رأسكَ في " الفريزر ". لا تعلمُ متى يتحوّلُ فخذُ الدجاجِ الذي تأكله إلى صاروخٍ باليستي برؤوسٍ نووية. لا تعلمُ متى يغطُّ عليك " موتسيك " وسطَ الزحمةِ فيَبليكَ بَلوى لا تَفهَم. لا تَعلَمُ متى تتلبّكُ معدتُكَ بسببِ خسّةٍ ما عادِتْ " إلَك " ولا تعلَمُ وسطَ الذين يتنعّمونَ ب " شَفطَة " متى تأتي الشرطة.

نخافُ ليس فقط من الكوليرا. " نستخِشُّ " من الدخول ليلًا إلى أبنيتنا السكنية خوفًا من الجِياع بِلا أبنِيَة. نخافُ ألا نخافَ لأننا لا نثقُ بأحد. خوفنا ناجمٌ من أننا متروكون. تمامًا كمثلِ إعلانِ أحدى شركاتِ التأمين التي تصوِّرُ طفلًا خائفًا في مرآبٍ موحشٍ قبلَ مجيءِ أمه. نحنٌ شعبٌ خارجَ الكرةِ الأرضية. نعيشُ في مَجرَّةِ الدبِّ الأكبر والدبِّ الأصغر ولا نعلمُ متى يضربُنا النيزك.

في هذا الوقتِ المستقطعِ تتحفنا وزارةُ الصحة بتوزيعِ منشوراتٍ عن الكوليرا . أحبائي، نعرفُ الوباءَ وقرأنا عنه. وفّروا الورقَ والمحابرَ لطباعةِ جوازاتِ سفرٍ. سنودِعها للحصول على ڤيزا هجرة إلى كينيا. تناسبُنا أكثَر كوليرا الماوماو.