عندما تتحوّل مدن فرنسا وأميركا وروسيا وإسبانيا وبريطانيا، إضافة إلى تونس ولبنان ومصر والسعودية والكويت وتركيا وليبيا والعراق وباكستان ومالي ونيجيريا وسواها، ساحات قتل جماعي، فهذا ليس فقط إرهاباً بل جرائم قتل منظّم وحرباً عالمية تستهدف الإنسان. إنه الجيل الثالث من التنظيمات الإسلامية السلفية المسلّحة يضرب في كل مكان.
الانطلاق كان في التسعينيات في أفغانستان مع التلاحم المصيري بين القاعدة بقيادة أسامه بن لادن وحركة طالبان بقيادة الملاّ عمر، نتج عنه نظام حكم وصل إلى حدّ منع الفتيات من تحصيل العلم في المدرسة.
حاول بن لادن تثبيت القاعدة في السعودية والسودان وفشل، فعاد إلى أفغانستان. وجاءت «غزوة» نيويورك وواشنطن في 11 ايلول 2001 لتهزّ أميركا والعالم. وكان للجيل الثاني من التكفيريين ساحة أخرى للحروب ضد «الكفار» والاحتلال الأميركي في العراق. إنه جيل أبو مصعب الزرقاوي وسواه من قادة الميدان. وفي العراق أَخذ الجهاد بُعداً مذهبياً لم يسبق أن تبنّاه الجيل الأول الذي شدّد على مقاتلة «العدو الأبعد». الجيل الثالث بقيادة أبو بكر البغدادي والدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام، والجولاني، قائد «جبهة النصرة»، وغيرهما من أمراء التنظيمات التكفيرية، استهدف «العدو الأقرب». تبدلت أساليب القتل لتواكب آخر الابتكارات في الإعلام المرئي والمسموع ووسائل الاتصال الاجتماعي، وبقيت مناهل الفكر التكفيري على حالها ومعها البيئات الحاضنة بالفكر والمال والسلاح.
لم يعد ينفع الكلام المكرّر عن المؤامرة والغرب والاستعمار لتبرير أفعال من يقتل الناس العزّل على شواطئ تونس أو في مقاهي باريس ومسارحها، أو في ضاحية بيروت وفي كنائس نيجيريا والعراق ومساجد الكويت وباكستان. ولولا التدابير الأمنية المشدّدة والتنسيق بين أجهزة الأمن الدولية، لكان القتل أوسع انتشاراً. ولا بدّ هنا من التنويه بالعمل الدؤوب والفعّال الذي تقوم به أجهزة الأمن اللبنانية لكشف شبكات الإرهاب والحدّ من جرائمها.
نعم واشنطن والقاعدة تعاونا في أفغانستان في زمن الحرب الباردة بهدف إلحاق الهزيمة بالسوفيات. والآن واشنطن وموسكو تتعاونان للتصدي للإرهاب في العراق وسوريا. بعض دول الخليج وتركيا دعمت التنظيمات التكفيرية ولم تسلَم من إرهابها. «حزب الله» يقاتل في سوريا، وعدد من اللبنانيين يقاتلون مع «داعش». فرنسا استعمرت الجزائر نحو قرن ونيف، وأميركا تدعم الاحتلال في فلسطين وتغطّي انتهاكات إسرائيل المتمادية في المجالات كافة. ألمانيا النازية قتلت الملايين من الأوروبيين وأميركا خاضت حرب الاستقلال عن بريطانيا في أوآخر القرن الثامن عشر. الحملات الصليبية منذ نحو ألف عام احتلت «دار الإسلام» وجيوش المسلمين دخلت أوروبا وحاصرت فيينا وأقام المسلمون حكمهم في الأندلس طيلة ثلاثة قرون. وقع الصدام بين الفاطميين والعباسيين وبين العثمانيين وروسيا في مطلع القرن التاسع عشر. أنظمة التمييز العنصري قُضي عليها في آخر تطبيقاتها في جنوب افريقيا في العام 1994. ولا ننسى أن قايين قتل أخاه هابيل قبل الإنجيل والقرآن. التاريخ صنعته المجازر والحروب وارتكابات الدول والطغاة. ومهما كانت الأسباب والدوافع المستوحاة من التاريخ، فلا شيء يبرّر القتل الجماعي في القرن الحادي والعشرين، بعدما تبدّلت القيم والمعايير والدول وأنظمة الحكم في العالم، المتديّن والملحد على حد سواء.
وإذا أخذنا بمنطق الجهاديين المتطرفين، من عبد الله عزام إلى البغدادي، فما هي القضية التي يقاتلون من أجلها اليوم بالمقارنة مع قضايا حرّكت هذه الجماعات في زمن الاحتلال السوفياتي لأفغانستان أو القواعد العسكرية الأميركية في السعودية، وصولا الى الجبهة «الاسلامية العالمية ضد الصليبيين واليهود» التي أعلنتها القاعدة في العام 1998، ولاحقا محاربة الاميركيين والشيعة وإيران في العراق في زمن الزرقاوي وأتباعه. ما هي قضية «داعش» في سوريا، حيث القتل لا يميّز بين النظام والمعارضة وحتى «جبهة النصرة» الموالية للقاعدة؟ «غزوة» باريس الأخيرة تأتي في السياق عينه من وجهة نظر «داعش»، حيث الكفر مستشرٍ، يضاف إليه أحقاد تختزنها الذاكرة التاريخية. ربما اعتبرت باريس أن موقفها المناوئ للنظام السوري قد يجنّبها إرهاب «داعش»، إلا أن «الخليفة إبراهيم» لا يرى في بلاد الشام سوى أرض جهاد بلا حدود، وهو غير معني بتفاصيل الأزمة السورية، مثلما هو غير معني بأوضاع أي بلد آخر، ما دام القتل متاحاً في أي مكان. والمفارقة أن «داعش» في مواجهة مع العالم باستثناء إسرائيل.
الفارق كبير بين الإرهاب «العلماني» الذي ضرب إيطاليا وألمانيا، مثلا، في سبعينيات القرن الماضي، والإبادة التي مارسها نظام بول بوت في كمبوديا، وإرهاب «داعش» ومثيلاته. في القرون الوسطى مورس الاستبداد والعنف باسم الدين وسلطة الكنيسة. أما إرهاب اليوم فيستجلب الإرادة الإلهية لقتل الناس من كل الأديان والقوميات، ولأي سبب. هذا الإرهاب لن توقفه سوى الهزيمة الكاملة، شأنه شأن فظائع ارتكبتها حركات مشابهة عبر التاريخ القديم والحديث، وكان آخرها النازية، ولفظتها الأديان والحضارات.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News