منذ اندلاع أزمات المنطقة والموقف الفرنسي يترجم مواقف الحلف الأميركي الغربي والخليجي، وهو جزء لا يتجزأ من الحرب على الأنظمة التي حكم بعضها لأكثر من ثلاثين سنة، فوجدت فرنسا حاضنة صروح الديمقراطية وحقوق الإنسان نفسها، منسجمة مع ضرورة اللحاق بموجة التغيير المقبلة على مناطق حتى لو كانت تتمتع بخصوصية كبرى لديها مثل سورية.
اللافت أنّ فرنسا لم تتقدّم بمظهر صانع الحدث في سورية بعد اندلاع أزمة الديمقراطية المفترضة فيها، بل مشت طريق التبعية السياسية المطلقة للرغبة والرؤية والمنطق الأميركي الذي كان هو الآخر منطقاً قابلاً للمدّ والجزر، فتارة تصرّفت الولايات المتحدة من منطلق احتضان "الثورات"، وأخرى من منطلق عدم ممانعة حدوث تغيير على "الثورات" نفسها، وكانت مصر أبرز وأقوى المنعطفات في التوجه الغربي نحو التغيير في الشرق الأوسط، وبعد أن قدّمت واشنطن دعمها الكامل للإخوان المسلمين في مصر إبان حكم الرئيس السابق محمد مرسي، بالتعاون مع تركيا، سحبت البساط مجدّداً من تحت كرسيه، ودعمت الثورة المتجدّدة في مصر، فقدّمت الرئيس عبد الفتاح السيسي منقذ مصر والعابر معها إلى خط الأمان، وهنا طلبت الدول الحليفة لواشنطن بعض التوضيح جراء الانعطافة الجذرية والمخيفة في الموقف، فجاء الجواب عبر وزير خارجيتها جون كيري: "لقد أخطأنا التقدير".
فرنسا التي تعايش موقفها مع الموقف الأميركي في التعامل مع أزمات "الربيع" تقدّمت في بعض الأحيان عن الموقف الأميركي في التعنّت في بعض الملفات المطروحة، وأبرزها الأزمة السورية والملف النووي الإيراني الذي صادف ذروة التطوّر فيه هذه المرحلة الدقيقة، فظهرت فرنسا صوتاً أوروبياً أول في مشروع إسقاط الدولة السورية شاركت قواتها الأمنية والعسكرية في معارك بارزة عدة على الأرض السورية تكشفت بصماتها بعد استرجاع الدولة السورية لها من يد الإرهاب، وفي كلّ مرحلة تقدّم فيها الموقف الروسي الأميركي نحو أرضية الاتفاق على حلّ سياسي في سورية، كان وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس يخرج بموقف متعنّت في كلّ مرة أكثر من سابقاتها، معلناً موقفاً فرنسياً رافضاً لأيّ عملية تحرك المسار السياسي قبل إسقاط الرئيس الأسد.
الأمر نفسه ينسحب على التعاطي الفرنسي مع الملف النووي الإيراني، والذي يشكل هنا أرضية انطلاق في البحث عن الموقف الفرنسي بشكل أدق. فقد بقيت فرنسا أكثر الدول تشاؤماً من التزام إيران بأيّ اتفاق في هذا الإطار، لا بل سوّقت فرنسا لفكرة أخطر من البحث في مشروعية الملفّ من عدمه مفادها مدى خطر الاتفاق على مصالح "إسرائيل"! فحاولت عرقلة المفاوضات بشكل دؤوب وظهرت كأنها الناطق الأوروبي الأبرز باسم الكيان "الإسرائيلي".
كل ما سبق إشارات تنذر بضرورة الالتفات إلى الموقف الفرنسي في الحالة اللبنانية والتوقف عندها، خصوصاً في الأيام الدقيقة التي يعيشها اللبنانيون، لا سيما في ما يتعلق برئاسة الجمهورية، فبعد طرح الحريري فكرة ترشيح النائب سليمان فرنجية، لفت اتصال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بالمرشح فرنجية معبّراً عن دعمه لهذه المبادرة لمجرد أن تمّ تبنّي الاتصال وطرحه إعلامياً حتى بدا ترشيح فرنجية مدعوماً من هولاند بناء على رغبة أميركية، حسب معلومات أحاطت بتلك الفترة.
اليوم تطرح مسألة الموقف الفرنسي الحقيقي في الساحة اللبنانية بريبة، خصوصاً بعدما عرف عن اهتزاز هذا الموقف وخضوعه للبورصة السياسية بين تنكّر لمواقف وتبنّي غيرها، وليس الانفتاح على إيران اليوم إلا مثالاً على ذلك، فها هو الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني يؤكد من العاصمة الفرنسية المكانة والأهمية البارزة لتنمية العلاقات بين البلدين الكبيرين إيران وفرنسا، لافتاً إلى أنّ الاتفاق النووي أثبت قوة الحوار والدبلوماسية.
مصدر دبلوماسي متابع يضع الموقف الفرنسي في إطار البازار السياسي المفتوح، ومن غير الممكن بعد التجربة النووية والتجربة السورية الانخراط الفرنسي في مكافحة الإرهاب إلى جانب روسيا واعتبار الموقف الفرنسي ثابتاً بالملف الرئاسي اللبناني وغير تابع للظرف المصلحي القابل للتبدّل أو التغيير، إذا اقتضت الضرورة.
وبالعودة لزيارة روحاني التاريخية لفرنسا وبمعرض خطابه من هناك أكد الرئيس الإيراني أنّ لفرنسا وشعبها مكانة خاصة لدى الشعب الإيراني، مضيفاً أنّ لبنان صديق لفرنسا وإيران ونتمنّى أن يخرج من أزمته وفي هذا دعوة إيرانية مباشرة للتعاون في مجال حلّ الملف الرئاسي العالق في لبنان، وهنا فإنّ التعويل على أنّ فرنسا متمسكة بطرح فرنجية رئيساً للجمهورية قد لا يكون أكيداً، إذا ما اتفق اللبنانيون على مرشح آخر ووجدت إيران في ذلك الإجماع محطة مفصلية لحلّ الأزمة، وهنا سيقع الموقف الفرنسي أمام الامتحان الكبير فهل تتلاقى مواقفها مع الموقف الإيراني من ضرورة حلّ الأزمة فتدفع قدماً الحلول نحو استرضاء حلفاء إيران في لبنان؟
على أيّ حال افتتح روحاني العلاقات بين البلدين باتفاقات اقتصادية هامة أبرزها صفقتي شركة "إيرباص" الفرنسية التي ستشتري بموجبها إيران 114 طائرة، وصفقة أخرى مع شركة "بيجو" تبلغ قيمتها 400 مليون يورو على مدى خمس سنوات وتأسيس شركة مشتركة بين "بيجو" و"خودرو" الإيرانية فيما أفاد رئيس "رابطة الأعمال الفرنسية" بأنّ باريس ستّتفق على أربعة عقود كبيرة أخرى مع طهران خلال الزّيارة، وهنا فإنّ العقود الإيرانية التي وقّعت مع شركات ترمز إلى هوية فرنسا تجارياً واقتصادياً تشير إلى علاقة ازدهار مأمولة بين البلدين، وليس كلّ هذا سوى رسائل سياسية إيرانية رفيعة المستوى إقليمية ودولية…
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News