مختارات

placeholder

ملاك مكي

السفير
السبت 16 تموز 2016 - 07:12 السفير
placeholder

ملاك مكي

السفير

أدركت الحرب بعد انتهائها

أدركت الحرب بعد انتهائها

أذكر انني اشتريت حذاء صيفيا قبل بدء حرب تموز ببضعة أيام. اندلعت الحرب. غادرت انا وعائلتي البيت في الضاحية الجنوبية وانتقلنا الى بيت جدتي الذي يقع جنب حديقة الصنائع. تطوعت وآخرين في اعمال الإغاثة في الحديقة، تقاسمنا مهام توزيع الأكل وأدوات التنظيف، والفراش. اخترت أن أقف على باب الحديقة، اسجّل أسماء الوافدين اليها، وأسماء أولادهم وأعمارهم، وقراهم، وأمراضهم المزمنة.

كنت شابة صغيرة ملتزمة بمهامي. وقفت على باب الحديقة ثلاثين يوما. لا أخاف الشمس، واعود ليلا الى بيت جدتي، فتمتعض من العودة المتأخرة خوفا من ألسنة الجيران. أذكر أن فتى صغيرا كان يتبرّع بمرافقتي في بعض الليالي للعودة الى المنزل. كان فتى ضحوكا، ومبتسما، ذكيا واجتماعيا. قال لي ذات مرة ونحن عائدين الى البيت أنه يلاحظ حزنا في عيني. ما زال الحزن يلمع في عينيّ.

كان النازحون يفترشون تراب الحديقة، لا يبدّلون أماكنهم، يتمسكون بالزاوية أو النقطة عينها. أذكر أن رجلا كان يرسم بعض الوجوه، وأن آخرين يستمعون الى المذياع، وأن الأولاد كانوا يركضون. تجلس أختان متقدمتان في العمر تحت الشجرة عينها، لا تغادرانها وكأنهما ترغبان في أن تتمسكا بشجرة. تراقبان الافراد جيئة وذهابا وتهمسان لي أنهما لاحظتا أن ليس لدي حبيب بخلاف الفتيات الأخريات. لم يكن لدي حبيب، كان لي صديق مقرّب مقيم في فرنسا، أتصل به في بعض الأوقات من كابينة الهاتف في الشارع. أذكر جيدا رنات الهاتف. لم يكن لدي هاتف خاص. اشتري بطاقة هاتف دولية واتصل به من لبنان الى فرنسا.

أذكر أن أمي، وعندما قصدت المنزل لمرة واحدة فقط أثناء الحرب لجلب بعض الأوراق الرسمية المهمة، جلبت لي معها دفتر قصائدي الشعرية. لم أطلب منها ذلك، ولم أكن يوما متعلقة بأشعاري، غير أن امي ارتأت ان تفتش عنها وتحتفظ بها ربما لأن الشعر منقذ من الحرب.

أذكر خجلا أنني لم أنجح في أن أوفرّ لامرأة حامل بطانية ذات مواصفات جيدة، وانني لم انجح في أن أؤمن وجبة طعام لابن جائع قبل الوقت المحدد لتوزيع العشاء. كنت صغيرة ربما في السن. لكنني اذكر في المقابل انني ولوهلة قصيرة، قلت جملا كبيرة، وانا أوزع بعض الثياب الجديدة لأطفال النازحين، قلت حينذاك أنه ليس من داع للتدافع للحصول على الثياب، فحربنا هي ضد الذل بالمقام الأول.

نسجنا صداقات لطيفة نحن الشابات والشبان المندفعين، كنا نتناقش ونتبادل أطراف الحديث في مرات كثيرة. أذكر انني انهرت ذات يوم. بدأت بالبكاء، فاقترب أحدهم مني، وقال لي أنني أحتاج كتفا للبكاء عليه. كنا نسمع أصوات القصف في الليل، غير أن معايير الزمن كانت مختلفة في تلك الفترة. لم تكن الأيام موزّعة بين نهار وليل، بل كان الزمن ثقيلا، بطيئا، مرعبا. أذكر أن جدتي كانت تتناول في تلك الفترة الكثير من فاكهة الدراق. لا أعرف السبب الذي جعل جدتي تحب الدراق أكثر في أيام الحرب. كانت الحرب قاسية، والجرائم فظيعة، وكان النازحون في الحديقة ينتظرون، وعندما وضعت الحرب أوزارها، أذكر جيدا كيف بدأ جميع النازحين بالعودة. لم ينتظروا، ولم يخافوا، ولم يشككوا، بل وضّبوا أغراضهم الصغيرة بسرعة، قبّلونا، وعادوا سالمين الى قراهم التي تنتظرهم.

عدت أنا الى بيتي. كانت خيوط الحذاء الصيفي واضحة. تلك التموجات بين الظل والضوء. مشيت والحذاء عينه ساعات طويلة في أحياء الضاحية الجنوبية. كنت وحيدة وحزينة. لم التقط صورا، لكن ذاكرتي طبعت صورا عميقة عن الدمار الهائل والمساحات المدمرة. حزنت كثيرا حينذاك، وكأنني اكتشفت معنى الحرب فجأة. كان الدمار يشبه الموت. شعرت بكآبة شديدة. نمت لأيام طويلة في المنزل، واكتسبت وزنا. أدركت الحرب بعد انتهائها.

واليوم، وبعد مضي عشر سنوات على الحرب. توفيت جدتي. تزوج صديقي وأصبح لديه طفلان. تمت إعادة تأهيل حديقة الصنائع. بدّلت أحذية عدة. تغيّر طعم الدراق. أصبح لدي هاتف خاص. نسيت وجوها وأسماء. لا أعرف ماذا جرى لتينك السيدتين اللتين قبعتا تحت شجرة في حديقة طيلة أيام الحرب. لم اعد أذكر اسم الفتى الصغير المبتسم، لكنني أتمنى أن يكون قد أصبح شابا طويلا، ذكيا وسعيدا، لا تؤرقه يوما من جديد فكرة أن ينام على قطعة كرتون، وأن ينتظر وجبة طعام، وأن يفقد أهله وبيته، فجميع الحروب، وان حققت انتصارا، تبقى مؤذية ومدمّرة...

أذكر أن رف حمام كان يرفرف في سماء الحديقة، يرتعب في بعض اللحظات، فيطير ويحطّ... فأتمنى أن يبقى طير حمام السلام يرفرف في قلوبنا وسمائنا.

تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة