مختارات

الأحد 12 شباط 2017 - 06:58 الراي

كم هي عميقة الجذور التي زرعها رفيق الحريري

كم هي عميقة الجذور التي زرعها رفيق الحريري

كلّما مرّت الذكرى، كلّما اكتشف المرء عنصرا جديدا يؤكد ان الجريمة لم تكن تستهدف الرجل بمقدار ما انّها كانت تستهدف لبنان بكلّ أبنائه. كانت تستهدف سورية أيضا التي تحولت مدنها الى اطلال في غياب رفيق الحريري.

للمرّة الثانية عشرة تطل ذكرى غياب رفيق الحريري الذي اغتيل ظلما مع رفاقه بهدف التخلص من لبنان. للمرّة الثانية عشرة يتبيّن ان الجريمة التي ارتكبت في الرابع عشر من فبراير 2005 لن تمرّ. من كان يصدّق، ان النظام السوري الذي كان، في اقلّ تقدير، متواطئا مع منفذي الجريمة انتهى في اليوم الذي اغتيل فيه الشخص الذي يرمز الى المحاولة الجدية الوحيدة، منذ العام 1975، لاعادة الحياة الى لبنان انطلاقا من بيروت.

ما تشهده سورية في هذه الايّام أسوأ من نهاية لنظام. انّها نهاية لبلد كان يمكن ان يكون من افضل بلدان المنطقة، لو وجد فيه من يستمع لرفيق الحريري بدل ان يرفع شعارات «المقاومة» و«الممانعة» لتبرير الجرائم المرتكبة في حقّ اللبنانيين والسوريين في آن.

في اثنتي عشر عاما، جرت المحاولة تلو الأخرى من اجل القضاء على ما بناه رفيق الحريري في وقت قياسي. تكمن مشكلة الذين يقومون بهذه المحاولات في انّهم لا يدركون مدى عمق الجذور التي لمشروع رفيق الحريري. هذا المشروع الذي يتلخص بعبارة بناء الانسان والحجر في آن.

اصبح رفيق الحريري رئيسا لمجلس الوزراء في العام 1992. ما يفوت كثيرين ان عملية إعادة بناء لبنان لم تبدأ بتشكيل الحكومة الحريرية الاولى. بدأت العملية منذ اصبح رفيق الحريري قادرا على مساعدة لبنان واللبنانيين من ماله الخاص الذي كسبه بعرق جبينه في بلد الخير الذي اسمه المملكة العربية السعودية.

على المرء ان لا يستحي من تسمية الأشياء باسمائها. هناك شخص يعرف لبنان. كان هذا الشخص، «المهووس بلبنان» على حدّ تعبير نهاد المشنوق، مستعدا للتبرع بثروته الضخمة، او على الاصح بقسم كبير منها من اجل البلد وكي «يبقى البلد»، كما كان يقول رفيق الحريري نفسه.

من تعرّف على رفيق الحريري مطلع تسعينات القرن الماضي، قبل ان يصبح رئيسا لمجلس الوزراء، يدرك كم تطوّر الشخص في غضون 15 عاما. كان من الزعماء القلائل الذين لا يستحون من قول عبارة «لا اعرف» عندما كان امام سؤال لا يمتلك جوابا عنه او قضية غريبة عنه. لكنّه كان في المقابل يعرف من هو الشخص الأفضل للإجابة عن هذا السؤال او للتعاطي مع هذه القضية بشكل فعّال.
في هذه القدرة على التطوّر والتأقلم مع المتغيّرات ومعرفة من يصلح لماذا، تكمن اهمّية رفيق الحريري الذي سعى الى إقامة علاقات مع جميع اللبنانيين وعمل في الوقت ذاته على التأسيس لشبكة علاقات عربية ودولية لم يكن هناك من مثيل لها. كان مهتمّا بكلّ شاردة وواردة من اقصى المغرب العربي الى كلّ دولة من دول الخليج، مرورا بالطبع بالمشرق العربي. قليلون يعرفون ان رفيق الحريري شارك في صياغة الدستور الفلسطيني عن طريق أفكار معيّنة ساهمت في اغناء الدستور واعطائه بعدا انسانيا.
لعلّ اكثر ما يلفت في رفيق الحريري انّه كان يعرف كيف يبني وكيف يؤسس. امتلك معرفة عميقة بلبنان واللبنانيين. كان يعرف اهمّية الجامعات والمدارس والمستشفيات والمصارف والفنادق والمطاعم وكلّ المرافق السياحية في لبنان. استثمر فيهما وفي الانسان اللبناني. لذلك علّم عشرات آلاف اللبنانيين على حسابه.
عرف معنى الجامعة الأميركية في بيروت ومستشفاها واهمّية الجامعة اليسوعية والجامعة العربية والجامعة الوطنية (الجامعة اللبنانية). لولا رفيق الحريري، لكان ممكنا ان تقفل الجامعة الأميركية أبوابها وان يهاجر اساتذتها وجميع الأطباء الذين كانوا يعملون في مستشفاها. حمى رفيق الحريري الجامعة الأميركية والجامعات الأخرى التي خرّجت شبانا لبنانيين وآخرين من العرب برعوا في كلّ الميادين. احد خريجي الجامعة الأميركية تبرّع أخيرا للجامعة وكلية الهندسة فيها بمبلغ كبير. اسمه مارون سمعان وهو شاب لبناني من الجنوب تخرّج من كلّية الهندسة. أراد بكل بساطة ان يكون وفيّا لمن قاده الى النجاح. أراد ان يكون وفيّا للبنان وللجامعة التي قدّمت له الكثير. تلك مدرسة وطنية بحدّ ذاتها ساهم في تعميمها رفيق الحريري وآخرون سبقوه في ذلك، لكنّ أيا منهم لم يقدّم ما قدّمه في ظروف في غاية الصعوبة والدقّة…
حمى رفيق الحريري كلّ المؤسسات الوطنية. كان يعرف معنى دعم الجيش وقوى الامن ومعنى ان تجد جريدة «النهار» ورقا كي تستمرّ في الصدور ومعنى ان يبقى للبنان شركة طيران خاصة به اسمها «الميدل ايست».

هذا غيض من فيض ما عمله رفيق الحريري الذي أعاد لبنان الى خريطة الشرق الاوسط. كانت لرفيق الحريري جذور عميقة في لبنان. زرع هذه الجذور الواحد تلو الآخر. كان دؤوبا. كان عصاميا. كان يعرف ان الرهان على لبنان في محله. اذلك بعد اثني عشر عاما على اغتياله لا يزال رفيق الحريري حاضرا اكثر من أي وقت. يعرف كلّ لبناني شريف ماذا فعل رفيق الحريري للبنان.
يعرف قبل ايّ شيء آخر انّه لولا رفيق الحريري، لكانت بيروت مدينة مقسمة وسطها مكان تسرح فيه وتمرح الكلاب الشاردة. قبل المباشرة بإعادة وسط بيروت، كان هذا الوسط مساحة تحوّلت الى ادغال. نبتت أشجار في وسط المدينة. مررت بالوسط في العام 1990 وكان معي ابني الذي كان بلغ في حينه الرابعة من العمر. نظر حوله وقال لي بالحرف الواحد: «لقد قتل الصيّادون المدينة». كان يقصد بالصيادين اولئك الوحوش الذين ينتمون الى ميليشيات مختلفة. لم يكن لدى هؤلاء من هدف سوى قتل بيروت.

بفضل رفيق الحريري، انتصرت ثقافة الحياة على ثقافة الموت. هذا معنى إعادة بناء بيروت. اقام جذورا لثقافة الحياة. هذه الجذور عميقة الى درجة يصعب اقتلاعها. هذه الجذور جعلت اللبنانيين ينتفضون في الرابع عشر من مارس 2005 بعد شهر من اغتيال رفيق الحريري. اخرج اللبنانيون بصدورهم العارية القوات السورية من لبنان بعد احتلال استمر نحو ثلاثة عقود.

لا شيء يعوّض عن خسارة رفيق الحريري الذي يعرف كلّ لبناني من اغتاله ولماذا اغتيل بعد اقلّ من سنتين من تسليم الإدارة الأميركية العراق الى ايران وبدء الانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الايراني الذي استهدف اوّل من استهدف الحريري ومشروعه الوطني.

المحزن في الامر انّ الحريري لم يكن فرصة اضاعها لبنان. كان فرصة اضاعتها سورية أيضا. لا شيء يحدث بالصدفة. ليس صدفة انهيار سورية بعد سنوات قليلة على غياب الحريري. لم يكن الرجل حاميا للبنان فحسب، كان حاميا لسورية أيضا. لبنان سيتمكن من التقاط أنفاسه، وان بصعوبة. ولكن كيف لم يستطع بشّار الأسد فهم انّ اغتيال الحريري سيودي به وبنظامه وسيجعله اسير مشروع ايراني ذي اهداف واضحة كلّ الوضوح من بين ضحاياه سورية ولبنان وكلّ ما هو عربي في المنطقة؟

تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة