ليبانون ديبايت - ملكار الخوري
أعادت جريمة قتل الشاب روي حاموش المروّعة فتح النقاش على مصراعيه حول جدوى عقوبة الإعدام أو عدمها.
وإذا كان المنطلق هو قدسيّة الحياة وعدم جواز إزهاق الروح، فمفاعيل هذه القدسية ليست حكراً على فئة دون سواها لكون الكرامة الإنسانية تشكل القاسم المشترك الوحيد بين مختلفين عقلياً، وجنسياً، ودينياً، وثقافياً، وفيزيولوجياً... حقيقة، بديلها العودة إلى الداروينية الإجتماعية والقبول بمفاعيلها على سلة الحقوق بلختلافها بدءا بالحق بالحياة مرورا بالحقوق القضائية فالسياسية والإجتماعية وصولاً إلى الحقوق الثقافية.
يرى المتحمسّون لعقوبة الإعدام بأنها الرد المناسب على فعل المرتكب لكونها تشفي غليل أهل الضحية، والمرتكب بفعله قد حَلّ المجتمع من واجبه تجاهه لنا يشكل فعله من خرق لقواعد هذا المجتمع؛ وهي تشكل أيضاً رادع لمرتكبين محتملين.
حسناً، فلنفنّد هذه الحجج. قد تكون صائبة أو لا.
إذا كانت مقاربة مفهوم العقوبة تستند إلى مبدأ العقوبة الإنتقامية، أزعم بأن الحجج المذكورة أعلاه في محلّها. لكن العدالة ليس فعل إنتقام، بل فعل إحقاق حق. ومنطقياً لا يرد حق بإنتهاك حق آخر.
إذاً لا بد من تحديد مفهوم وغاية العقوبة، لبحث جدوى أو عقوبة الإعدام أو عدمه. فالعقوبة بالمفهوم الحالي هي فصل للمرتكب عن المجتمع، من جهة لحماية الثاني من أفعال الأول ومنعه من تكرارها؛ وهي ايضا عملية تأهيل للمرتكب لتأمين حسن إندماجه بالمجتمع بعد تنفيذه عقوبته.
ملاحظة: هذه المقاربة لا تعني كما يحلو لبعض السخفاء (وفي تصريحي هذا خروج متعمّد عن أصول المقاربة الموضوعية والأكاديمية التي أحاول إتباعها في معالجة أي موضوع) إعفاء المرتكب من العقوبة وتشجيعه على إرتكاب المزيد.
العدالة فعل إحقاق حق. ومنطقياً لا يرد حق بإنتهاك حق آخر.
لجهة التعويض، تقضي العقوبة إمّا بالرد عيناً أو بالقيمة نقداً. وفي الحالتين، لا يؤدي الإعدام إلى تحقيق أي منهما. القول بأن الإعدام يشكل تعويضاً معنوياً، فيعني ذلك إحقاق الحق بإنتهاك حق آخر. أي الإعتراض على القتل، بفعل قتل!
لجهة إسقاط العلاقة "التعاقدية" بين المرتكب والمجتمع، أي القول بأن المرتكب بفعله قد حَلّ المجتمع من واجبه تجاهه لما يشكل فعله من خرق لقواعد هذا المجتمع؛ ففي ذلك تغليب لصفات عرضية على الكرامة الإنسانية. فالإجرام لا ينفي الكرامة الإنسانية للمرتكب، كما أن إختلاف العرق أو اللون أو الدين أو الجنس لا يجعل واحدهم أقل كرامة من الآخر، وإلّا، لما الإعتراض على قوانين الفصل العنصرية، والتمييز والتهميش القائم على أساس الدين أو الجنس؟
لجهة عامل الردع، يفوت الكثيرين أن فرضية النجاة من العقوبة هي في أساس إنتقال العمل الإجرامي من مرحلة التخطيط إلا مرحلة التنفيذ. لو كانت العقوبة رادعاً – أياً كانت طبيعتها أو قساوتها – لبقيت كل الجرائم في مرحلة التخطيط.
لجهة مفهوم المسؤولية، فعقوبة الإعدام تحصرها بالمرتكب فقط، في حين أن أي فعل جرمي هو نتيجة تراكمات وظروف وبيئة مجتمعية تحيط بالمرتكب. في حالة قاتل روي حاموش، صحيح أن الفعل صدر عن شخص محدد ومعروف، وهو فعل إرادي وليس عرضي (أي هناك توفّر للإرادة الجرمية) وهو جريمة موصوفة. لكن ماذا عن المناخ المساعد للوصول إلا تنفيذ الفعل: ضعف هيبة القانون، إستنسابية تطبيق القانون، عدم القدرة على ضبط تفشي السلاح... هذه كلّها عناصر مشاركة وشريكة في إرتكاب الجرم.
لجهة العقوبة كتدبير إصلاحي، تقضي عقوبة الإعدام عليها بشكل نهائي وأكيد.
في المواقف الدينية من الإعدام
تتخذ الكنيسة موقفاً مبدئياً مناهضاً للإعدام، وقد شارك الفاتيكان في "المؤتمر العالمي الأول المناهض لعقوبة الإعدام" في مدينة ستراسبورغ في فرنسا عام 2001. وعكست هذه المشاركة التطور الجذري الحاصل في موقف الكنيسة الكاثوليكية من هذه العقوبة. فالأسباب التي كانت تجعل الكنيسة تقبل بها، وبحالات شديدة الخطورة، أصبحت اليوم غير موجودة. لا يوجد للطائفة الأرثوذكسية موقف رسمي من عقوبة الإعدام. إلاّ أن بطريرك الكنيسة الروسية ألكسي الثاني، وهي أكبر الكنائس الأرثوذكسية، عبر باقتضاب بليغ عن موقف كنيسته من الإعدام إذ قال "الإعدام قتل عمد والكنيسة ضده". ويستند موقف الكنيسة إلى الاعتبارات التالية
- الإيمان بأن الإنسان مكوّن على صورة الله ومثاله (Imago Dei) وفيه قبسٌ من روحه. ينتج عن ذلك تمتع الإنسان بكرامة فريدة وجوهرية لا يجوز نزعها لأي سبب خارجياً كان، أو اجتماعياً أو شخصياً، أولأي عمل يقترفه.
- الإيمان بأن إمكانية توبة الإنسان وخلاصه قائمة حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
يكرّم الإسلام الإنسان ويوليه أعلى المرتبات بين المخلوقات حسبما ورد في القرآن. غير أن الديانة الإسلامية تجيز الإعدام في (3) حالات حصراً هي النفس بالنفس، الردة بعد إيمان، وزنى المتزوّج. وقد أعادت تأكيد هذا الموقف كل الوثائق الإسلامية المرتبطة بحقوق الإنسان. فالمادة الثانية من إعلان القاهرة عن حقوق الإنسان في الإسلام نصت على أن "الحياة هبة من الله، وهي مكفولة لكل إنسان وعلى الأفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من كل اعتداء عليه. ولا يجوز إزهاق الروح دون مقتضى شرعي". كذلك نص البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام تحت فقرة "الحق بالحياة" على أن "حياة الإنسان مقدسة... لا يجوز أن يعتدى عليها: "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" (المائدة:32)... "ولا تسلب هذه القدسية إلاّ بسلطان الشريعة وللإجراءات التي تقررها".
في مقابل التفسير والتطبيق الحرفي للنص هناك تيار ليبرالي في الإسلام ينادي بمقاربة أكثر مرونة تجد أساسها في الفلسفة الدينية القائلة بثنائية الأبعاد في العلاقات: البعد العامودي الذي يرمز إلى علاقة الإنسان بالله، والبعد الأفقي الذي يمثل علاقة الإنسان بالإنسان. وتتصف العلاقة العامودية بثبات الأحكام التي تنظمها وشدة الإلتزام بها، أما الأحكام التي ترعى العلاقة الأفقية بين البشر فتحتمل التأويل أو التعديل أو حتى التعليق. ويستند هذا الموقف إلى مجلة الأحكام العدلية العثمانية -المجلّة- التي صدرت خلال المرحلة العثمانية حيث كان السلطان خليفة المسلمين. فالمجلة اعتمدت ضمن أحكامها القانونية الأساسية المبدأ القائل "لا ينكر تبدل الأحكام بتبدل الأزمان". وقد أخذ العديد من رجال الدين والمفكرين المسلمين بهذا المبدأ لتفسير عدد من الآيات منها الآية الرابعة من سورة النساء التي تتناول حالة الردّة بعد إيمان.
بعيداً عن الدين، ينظر البعض إلى الحياة نظرة فلسفية بحتة تقوم على التمييز بين جوهر الإنسان والصُدَف التي يتعرّض لها. فالجوهر هو كرامة الإنسان وذاتيّته، وهو عنصر ثابت يتشارك فيه كل البشر. أما الصدفة فهي ما يميّز الشخص عن غيره مثل: اللون، والدين، والجنس... وهي عنصر متحوّل لا تأثير له على الجوهر. بالتالي فإن الجوهر يفوق الصدفة أهمية ولا يجوز التضحية بالجوهر بسبب الصدفة. فتحوّل الإنسان من مواطن صالح إلى مواطن يخالف القوانين لا يُنقص من جوهره أو كرامته. من هنا رفض عقوبة الإعدام لأنها تشكّل تضحية "بالجوهر-المشترك الإنساني" بسبب صُدفةٍ إجتماعية هي الإخلال بالقوانين وإن كان جسيماً.
ليس فيما ورد أي محاولة للتقليل من فعل قتل روي حاموش؛ ولا هي دعوة لتخفيف عقوبة القاتل أو إعفائه منها تحت أي من الذرائع، لاسيّما حقوق الإنسان.
العدالة فعل إحقاق حق. ومنطقياً لا يرد حق بإنتهاك حق آخر.
نعم، قد يبدو ما ورد غير متصل بالواقع، ورب سائل يسأل: ما ردة فعلك فيما لو كان روي حاموش أخاك وأنت جنبه في السيارة؟
الجواب ودون تردد هو: لحظة وقوع الحادثة، حتما ودون ترددً قتل المرتكب إذا تمكنت من ذلك.
أمّا بعد،
ليس الحق بالحياة للضحية والمرتكب على السواء صيحة موضة؛
ولا هو حق طائفي، أو مناطقي؛
ولا هو مادة للخطابات الشعبوية؛
ولا هو مادة لتحصيل أكبر عدد من اللايكات عل فايسبوك؛
ولا هو موضوع تقرر صحّـه أكثرية أو أقلية؛ فالحقيقة ليس رهن أرقام.
ولا يكون الدفاع عن الحق بالحياة بالدعوات إلى حمل السلاح.
من يقرر من هو "الآدمي" ومن هو الأزعر؟
فلنتخيل السيناريو التالي، غير البعيد عن كثيرين:
ماذا لو كان يوم أحدهم - الملتزم بالقوانين والمتمم لواجباته تجاه مالية الدولة ومرافقها الخدماتية - في العمل كما نقول "نهار إبن كلب": ضغط، ومشاكل، وملاحظات من رب العمل ومنافسة من زملاء في العمل، وديون للمصرف، وأوضاع إقتصادية عاطلة، وتبليغ بتخفيض المعاش مع إنذار بالصرف بعد 3 أشهر بسبب إقفال الشركة، ضف إليها الضغط اليومي الناتج عن زحمة السير، إلى هموم المنزل، والقسط المترتب للمدرس أو الجامعمة عن 3 أولاد، ومن ثم الكبت الناتج عن عدم القدرة على التقدم في صفوف حزب ما أو تجمع معين، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ، إلخ،
وفي طريق العودة، صدم هذا الأحدهم سيارة أمامه، لا لشيئ سوى لأنّه سها عن الطريق لجزئية من الثانية بسبب همومه المتراكمة.
يخرج من السيارة المصدومة، شاب طويل القامة لحيته كثّة، مفتول العضلات "شلولخ، عريض المنكبين" مسرعاً نحو السيارة الصادمة. هذا الأحدهم، بعد أن سمع بحادثة قتل روي حاموش قرر إقتناء مسدس "مرخّص" ووضعه في السيارة، ومن خوفه من بنية صاحب السيارة الأمامية أطلق النار عليه وأرداه قتيلاً.
صاحب السيارة الأمامية شاب عمره 30 عاماً، أجاب زوجته قبيل خروجه من السيارة: "ما تعتلي هم، مش رح نتأخر. الضربي خفيفة، بعطيه ل business card تبعي و 200 دولار، وإزا بدّو أكتر بقلّو إنِّو آخدك عل مستشفا تولّدي. يلحقني ومنحكي هونيك."
من هو الآدمي ومن هو الأزعر؟
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News