"ليبانون ديبايت" - ملكار الخوري:
قد تكون مسرحية صامويل بيكيت " en attendant Godot" الأكثر دقة في وصف حال السوريين واللبنانيين في لبنان: إسترجاع لذكريات مضت، وإنتظار ما لن يتحقق.
حسناً، قد يكون من غير الواقعي إسقاط "ما لن يتحقق" على واقع الحال، فالحرب كالبشر تبدأ في لحظة معينة، وتنتهي عند أخرى. ولعل القاسم المشترك والثابت الوحيد بين عالمين متحولين هو تاريخ الميلاد والبدء. أما النهايات فمن شبه المستحيل التنبؤ بها.
في الإنتظار، أمور كثيرة حصلت، تحصل وستحصل قبل أن يصل Godot؛ ومواضيع داهمة لا تحتمل التأجيل المستمر إلى حين تشريف Godot.
لا يختلف إثنان على ثقل الأعباء الديمغرافية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية التي ألقتها الحرب في سوريا على لبنان من خلال تواجد ما يقارب المليوني سوري في لبنان؛ وإن إختلفا على توصيف السوريين بين لاجئين أو نازحين. في الواقع أي من الصفتين غير متحققتين. فالنازح هو بحسب الإتفاقيات الدولية ذات الصلة باللجوء، من بقي تحرّكه ضمن حدود دولته، واللاجئ هو من إستحصل على بطاقة تعرّف عنه بهذه الصفة. السوريون في لبنان هم بأحسن الحالات طالبي لجوء. لم تختر حكومة نجيب ميقاتي صفة نازح لنقص في الخبرات القانونية، بل تلافياً للحرج تجاه الحكومة السورية: فإعتماد صفة طالب لجوء تشكل نوع من إدانة للحكومة السورية بحسب تعريف اللاجئ كما وردت في إتفاقية 1951 وبروتوكولها 1967 أو غيرها من الإعلانات الإقليمية (إعلان قرطاج وغيره):
"كل شخص يوجد، بنتيجة أحداث وقعت قبل 1 كانون الثاني/يناير 1951، وبسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلي فئة اجتماعية معينة أو آرائه السياسية، خارج بلد جنسيته، ولا يستطيع، أو لا يريد بسبب ذلك الخوف، أن يستظل بحماية ذلك البلد، أو كل شخص لا يملك جنسية ويوجد خارج بلد إقامته المعتادة السابق بنتيجة مثل تلك الأحداث ولا يستطيع، أو لا يريد بسبب ذلك الخوف، أن يعود إلى ذلك البلد."
رُبَّ قائلٍ بأن لبنان لم ينضم إلى إتفاقية 1951 بسبب وضع الاجئين الفلسطينيين في لبنان. صحيح (عدم الإنضمام). غير أن ذلك لا يُعفي الدولة اللبنانية من حدِ أدنى من الموجبات الإنسانية، في مقدمها كل ما يؤمن سلامة الحياة الإنسانية كمنع الرد non-refoulement، ولا يعطي الدولة اللبنانية الحق "بالتفذلك" وإعتماد "الجمباز اللفظي" للتحايل على تعريف قانوني ودولي.
لم يكن كافياً إستخفاف الحكومات المتعاقبة بعقول اللبنانيين والمجتمع الدولي، بل زاد في الطين بلّة غياب أي سياسة رسمية من جانب الدولة اللبنانية منذ 6 سنوات حتى اليوم لمعالجة تداعيات الأزمة السورية وملف السوريين في لبنان، وتخليها عن مسؤولياتها وواجباتها تجاه اللبنانيين. نعم، تجاه اللبنانيين. فهم اليوم يعانون الأمرين، لا سيّما في المجتمعات المضيفة التي هي أصلاً تعاني من مشاكل مزمنة على الأصعدة كافة. من جهة ثانية، تنعكس لا مسؤولية الدولة على القدرة على تقديم الخدمات والمساعدات اللازمة للسوريين. من الطبيعي ألّا يسارع المجتمع الدولي إلى تقديم الدعم المالي المطلوب في غياب خطة عمل رسمية وواضحة؛ طبق فينا المثل القائل: شحّاد ومشارط !
تخلّي الدولة عن مسؤولياتها في موضوع السوريين في لبنان أدّى إلى:
- توزّع السوريين بشكل عشوائي على كافة الأراضي اللبنانية، ما يعني عدم القدرة على إحصاء أعدادهم بشكل دقيق إن لجهة تحديد إحتياجاتهم الإنسانية، أو لجهة الحفاظ على الأمن والإستقرار.
- مزاحمة اليد العاملة السورية لليد العاملة اللبنانية في كثير من القطاعات، مما يعرّض الفئة الأولى للإستغلال والثانية لفقدان فرص العمل.
- إرتفاع التوتر بين المجتمعات المضيفة والسوريين، وما ينتج عنهم من إعتداءات متبادلة، وإمكانية إستغلال هذا الوضع لإثارة الصدامات من خلال تصرفات عنصرية وحقودة كمثل تسجيلات الإعتداء على سوريين التي إنتشرت على مواقع التواصل الإجتماعية.
فيما يلي، تصوّر مرحليّ لمعالجة بعض هذه الآثار:
أوّلاً - تقام أماكن تجمّع للسوريين يُطلق عليها إسم "مراكز إيواء مؤقتة" نظراً لما تثير مفردة "مخيّمات" من مخاوف غير مبررة نتيجة إسقاط التجربة الفلسطينية عليها. الأمران مختلفان: فلو توافق اللبنانيون والفلسطينيون الموجدون في لبنان وفلسطينيو الداخل على العودة، لما أمكن تحقق ذلك، لعدم وجود "دولة فلسطين"، ناهيك عن إستحالة التواصل الجغرافي مع الداخل الفلسطيني.
في حالة السوريين، فلو إتفق من منهم في لبنان، واللبنانيون والسلطة السورية على العودة، فذلك قابل للتحقق، بالإضافة إلى وجود "دولة سورية" تتمتّع أقلّه نظريا وقانونياً – بكامل عناصر الدولة – وبإعتراف رسمي دولي. تقدّم هذه المراكز كافة الخدمات بحسب القطاعات الإنسانية (صحة، تعليم، طبابة، حماية، مأوى...) وتكون هذه الخدمات بإدارة الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية والمحلية، ويتم نقل مراكز مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إليها. حماية هذه المراكز وأمنها تكون من مسؤولية السلطات اللبنانية. لربّما بعض من الجديّة في مقاربة هذا الملف قد يشجّع المجتمع الدولي على التجاوب بشكل أكبر.
ثانياً - في ظل قدرة عدد غير قليل من السوريين على التنقل بين لبنان وسوريا ذهاباً وإيّاباً بشكل متكرر، لا بد من مراجعة مدى إنطباق تعريف أسباب طلب اللجوء الواردة في إتفاقية 1951 وبروتوكولها 1967 عليهم؛ لا سيّما في غياب أي نقاش قانوني جدّي حول آثار واقع الحرب في سوريا على المنظومة القانونية الدولية للجوء ( ما هي الدروس المستقاة من الحرب السورية؟ هل من تأثير لها على التعريفات والمفاهيم المرتبطة باللجوء؟ هل من تعديلات مطلوبة لتكييف القوانين مع التطورات؟ هل من تأثير للحرب في سوريا على مفهوم السيادة...).
يُعطى السوريون خياراً من إثنين، فيما خص موضوع إقامتهم في لبنان مع اللإلتزام المطلق بإحترام مبدأ على عدم الرد
• الإنتقال إلى مراكز الإقامة المؤقتة
• تسوية أوضاعهم القانونية أسوة بغيرهم من الأجانب في لبنان
ثالثاً - إستمرار تسجيل ولادات السوريين لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وإعتماد قيوده كسند قانوني لإصدار هويات قيد سورية عندما تستوي الأمور في الداخل السوري. وعلى الأمم المتحدة الحرص على إدراج هذا البند على جدول أي حل مستقبلي في سوريا. فالآلية المعتمدة اليوم في لبنان طويلة، ومعقدة وتستوجب المرور حكماً عبر السفارة السورية؛ الأمر الذي يُثني كثر عن إتمام التسجيل. للبنان تجربة سيئة مع فئتين (خبرتهما أيضاً سيئة مع لبنان) هما مكتومي القيد وقيد الدرس، ومعاناة أفراد هذه الفئات اليومية للوصول إلى حقوق حيوية وأساسية. من هنا ضرورة تلافي أي سيناريو مستقبلي مشابه في حالة السوريين في لبنان وفي سوريا.
رابعاً- عدم إستبعاد الحوار مع النظام السوري في موضوع العودة الطوعية لمن يرغب من السوريين إلى مناطق بعيدة عن العلميات العسكرية والأمنية، تحت حجة العلاقات غير السوية مع النظام، وجملة تعابير على شاكلة: النظام المجرم، الدموي، القاتل، الإرهابي... لبنان ما زال في المفردات السياسية في حالة حرب مع إسرائيل، وفي الواقع القانوني في حالة هدنة، ولا يمنع ذلك الجانب اللبناني من التواصل عبر قوات اليونيفيل العاملة في جنوب لبنان مع الجانب الإسرائيلي عندما تدعو الحاجة.
لا يطابق ما ورد أعلاه معايير حقوق الإنسان والإتفاقيات الدولية ذات الصلة بموضوع اللجوء بكلّيته، فهو يُسقط عدة نقاط أساسية في سياق حالات النزوح واللجوء، كمثل عدم واقعية طلب أوراق ومستندات شخصية (لتسوية الأوضاع القانونية)، الحق بالعمل والإندماج في المجتمات المحليّة...
لكنّه يشكل مقاربة واقعية، تحاول الموازنة بين حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، ومقتضيات الأمن والإستقرار على طرفي خط التوتر في لبنان.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News