"ليبانون ديبايت" – عبدالله قمح
إذا كانت ثورة 17 تشرين الأول 2019 قد صُنّفت على المقياس اللبناني بمثابة خروجٍ عن طاعةِ الساسةِ، فعلى الأرجح أنّ الموجة الثانية المنقّحة المتوّجة منذ تاريخ 27 نيسان 2020 ستأخذ طابع الخروج عن الأمن، وحيث أن ثمة الكثير من المستفيدين والطبّاخين على صفائحٍ طائفية - سياسية متحرّكة تُصبح القراءة مفتوحة.
"بروفا" طرابلس - البقاع الغربي - صيدا أظهرت وجود أيادٍ جديدة "تُحركش" في المحظور الأمني في عمق الطائفة السُنّية. يظهر أنّ البعض يطمح لإعادة تكرار السيناريوهات الأمنية السّابقة أو بالحدّ الادنى يجد مصلحة في "نبشِ قبورها" مرّة جديدة. التسلّح بـ"المولوتوف" والمفرقعات من الاعيرة الثقيلة ليس حدثًا عابرًا... ولا تشكيل مجموعات أمن ذاتي يقودها مراهقون ايضًا.
طرابلس ليل الاثنين والثلاثاء كانت أقرب من حيث التشبيه إلى مدينة حمص السورية عند بداية التظاهرات هناك عام 2011. متظاهرون يهاجمون رجال الامن فورًا ومن دون أيّ مقدماتٍ.
أحدث تقرير عسكري يشير إلى هجماتٍ متزامنة لكن متباعدة جغرافيًا استهدفت قطعًا عسكرية تتبع للجيش.. في البداوي وبالتوازي مع ما كان يجري في محيطِ ساحةِ عبد الحميد كرامي، استهدفت دورية بقنبلةِ "مولوتوف" تبع ذلك انتشارًا أمنيًا من جانب الجيش الذي لمسَ وجود رغبةٍ في جرّهِ إلى اشتباكٍ داخل الأزقةِ فتراجع.
في طرابلس، تكرَّر الأمر نفسه. باستثناءِ ما حصل مساء الاثنين، شهد العسكريون على افتعالٍ مدروسٍ لمواجهاتٍ معهم في الايام اللاحقة كانت تبدأ عادةً بإلقاء قنابل مولوتوف على العسكريين ثم تستتبع برمي مفرقعات من أعيرةٍ ثقيلةٍ توجّه مباشرة إليهم، وعند تحرّك الجيش تقوم المجموعات التي تفتعل الاشتباك بتراجعٍ مدروسٍ نحو الأحياء الداخلية. اسلوبٌ تقرأ فيه بصمات عسكرية واضح غايته الاستفراد بالعسكريين.
طوال الايام الماضية توالت التقارير الامنية بالصدور. أحدها يُنذِر إلى وجودِ مجموعاتٍ كانت تنشط ضمن خلايا إسلامية جهادية تتحرَّك تحت سقفِ مجموعاتِ الحَراك بشكل يظهر أنّ أفرادها مستقلون ويتحركون بنيةٍ فردية لكنها من حيث قراءة تحركاتها تبدو منظمة جدًا وتنشط تحت سقفٍ معين، بل أن افرادًا منهم تقدَّموا عمليات الاعتداء على الجيش وثمة صور تظهر سقوط جرحى بينهم. هذه اشارة إلى ما قد تحمله دوافع التحركات الاخيرة.
ما يثير القلق، تقاطع هذه المعطيات مع معلومات تقارير سابقة ألمحت إلى عودة نشاط "الجهاديين" في طرابلس لكن بشكلٍ مستترٍ معزول عن نشاطهم السابق، يأخذ صفة إرشادية غير عسكريةٍ في الظاهر ترافق ذلك مع إيقاظ أفرادٍ من ضمن خلايا نائمة أبقوا أسلحتهم في الخزائن واندسّوا ضمن الحَراك.
بخلافِ ذلك، الهوية السياسية لبعضِ من نزل الى الشارع وتحديدًا في طرابلس واضحة رغم أنّ السمة العامة للمتظاهرين تبقى مرتبطة بدوافعٍ ذاتية، وفي حالاتٍ مماثلة حيث الخروج إلى الشارع غير مضبوطٍ بسقفٍ، يصبح من الصعب التفريق بين مجموعاتٍ يختلق فيها "المندس" مع "المحتاج" مع الناقم مع الجائع، مع المدفوع سياسيًا أو المدفوع لأغراضٍ أمنية أو لتصفيةِ حساباتٍ.
التقارير الامنية المتداولة على نطاقٍ ضيّقٍ تظهر وجود علاماتٍ غريبة. في إحداها إشارة واضحة إلى تحرك مجموعاتٍ وأشخاصٍ كانوا منضوين في عدادِ تركيبةٍ كانت محفوظة من قبل دولةٍ إقليمية راعية، وأخرى تُحسب على "الحالة البهائية"، وثالثة تسير في الركب الريفي لو أن مساهمتها في الليالي الحامية أقلّ.
ما كشفه رئيس الحكومة حسان دياب عن وجودِ تقاريرٍ كاملة عن الجهاتِ التي تحرّض على الشغب، وما ألمحَ إلى وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق حول وجودِ مؤامرةٍ على السُنّية السياسية سنواجهها "ونحن قدّها وقدود ودياب لا يمكنه أن يقفَ في وجهها" يتقاطعان في الاتجاه نفسه ولو أنهما ليسا واقعين ضمن الاطار ذاته.
"الرادارات المشنوقية" ترصد منذ مدة تزخيمًا لجهودِ الشقيق الأكبر للرئيس سعد الحريري، بهاء. صاحبُ مقولةِ "نحن لسنا غنمًا ولسنا قطعة أرضٍ تنقل ملكيتها" أرادَ توجيه بوصلة اشتباكاتِ طرابلس إلى وجهتها الصحيحة. في الظاهرة هي عبارة عن إنتفاضة بوجه السياسات الحكومية، لكن في العمق ما هي إلا كناية عن تصفية حساباتٍ داخل الطائفة.
التقارير الامنية تسير في الاتجاه نفسه ايضًا. تكوَّنت لديها معلومات وافية حول تنامي "الحالة البهائية" داخل المناطق السُنّية. ليست صدفة أنّ المدن التي تنمو فيها "الحالة البهائية" هي نفسها التي تسيدت مشهد "المولوتوف" وكانت صاحبة إمتياز مقارعة الجيش بالنار.
لذا، نحن أمام مشهدٍ مختلفٍ من إنتفاضةِ 17 تشرين. في الحالةِ الراهنة حجم الاستثمار السياسي أوسع، كذلك الأمني. الاجهزة الامنية تخشى من إسقاطِ سيناريو أمني بهدفِ تطبيقهِ لاحقًا على الأرض. المعلومات المتداولة في الغرفِ "مُقلِقَة" وتنذر بوجودِ مخططٍ يجري الاعداد له ضمن المحيط السُنّي تحديدًا، أشبه بانقلابٍ "ناعم" يُمهّد لتطبيقه.
من هنا يُفهَم اهتزاز وضعية سعد الحريري وتحوّله إلى شخصٍ سريع الاستفزاز وفقاً لما ظهرَ في بياناته الأخيرة. الأجهزة المحسوبة عليه أمطرته خلال الفترة الماضية بتقارير حول وضعية شقيقه، لذلك سارع للعودة إلى بيروت، فهل عودته سرَّعت بدورها لشروع في سحب السجادة من تحت قدميه؟
ثمة من يجد الآن قبولًا لدى الحريري في توظيفِ الجيش بمواجهةِ المتظاهرين في المناطق السُنّية. للجيش حسابات أخرى طبعًا، لا يهمه سوى حفظ الأمن وعدم الانزلاق نحو مواجهة شعبية مع الناس في الشارع، وعلى الأرجح، ما في بال حزب الله لا يختلف ايضاً. لكن يبدو من المنطقي أنّ الثابت لدى الجميع يتعلق باجتثاث الحالات الشاذة التي ترهن على اكتساب نقاطٍ في الشارع ومن خلال التلاعب بالوضعية الامنية.
توظيف الشارع لاستخدامه في توجيهِ رسائلٍ على نحو فوضويّ تجاه بيت الوسط واضحة، والجيش أبلغ تهديده بأنّ التلاعب بالأمن والسلم الأهلي خطٌ أحمر. هذا ينطبق على من يحرّكون الشارع الآن. التحركات "المستقبليّة" في بيروت ليلًا ليست بعيدة عن جوّ التحذير. الجيش الآن يدرس احتمالاته فيما لو مضى استغلال الشارع في توظيفِ حالةٍ من عدم الامن. يبقى أنّ الجيش ثابتٌ في عدم تحويل التحرّكاتِ الاحتجاجية إلى حالةٍ من التفلّتِ الأمني على غرار ما حدث في سوريا.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News