المحلية

الاثنين 11 أيار 2020 - 14:49

ثورات الفودو وحلقات الدبكة

ثورات الفودو وحلقات الدبكة

"ليبانون ديبايت" - جورج طوق

للثورات سياق موحّد، مهما تباعدت في الأزمنة والجغرافيا. بالرغم من هوّة نيّف وقرنين بينهما، تبدو الصور السياقية لثورة العبيد في هايتي وثورة ١٧ تشرين في لبنان متقاربة كلعبة الفوارق.

انطلقت ثورة هايتي رسمياً برقصات الفودو في مراسم "بوا كايمان"، ولم تغب بعدها عن احتفاليات الثوّار، كما لا تغيب حلقات الدبكة عن شوارع ثورة ١٧ تشرين في لبنان. قد تبدو الرقصات والمغاني فولكلورية وساذجة، لكن الثقافة الشعبية هي المرساة الأقوى للثورة في هويتها.

قطع العالم بماراثون الحرية والمساواة والإخاء مسافة لا بأس بها، لا سيّما في القرن الماضي. فالعبودية مثلاً، لم تعد امتيازاً حصرياً لسُمر البشرة. أصبح الرأي عسير التأثير ويسير التعبير، وبين عسر التأثير ويُسر التعبير، إنحدر دوي الآراء لترددات دون_سمعية، لا تلتقطها إلّا أجهزة إلكترونية متخصّصة، وأحياناً مخابراتية. أمسى امتلاك العبد سائغاً لآخر أقلّ بؤس منه بقليل. ولّى زمن عبيد الحقول، فقط لأنّ الحقول ولّت، وحلّ زمن عبيد المكاتب الجحرية. فاختفت ندوب السياط عن أجسادهم لتُنقش الندوب النفسية بسياط الهموم المعيشية و"المعاشاتية"، التي تختبئ خلف أناقة الملبس وعقاقير الاضطرابات العصبية. الخضوع هو المرادف العصري للعبودية.

لغير المظلَّل بالعبودية، لا يبدو تاريخ ثورات العبيد مشجّعاً، إذ جاءت نتائجها دائماً كارثية ودموية. للمستعبَد الثائر، ثورته، وإن انتهت غالباً بمصرعه، هي فسحة الحرية والأمل الوحيدة التي عرفها. وحدها ثورة هايتي، خرقت الفشل المزمن لمثيلاتها على مرّ التاريخ. فشل ما زال مخيّماً بشكل واسع، لا سيّما شرقاً، حتى يومنا هذا، بانتظار خواتيم ثورة تشرين.

حتى أواخر القرن الثامن عشر، كانت هايتي نعيماً للمستعمِر الفرنسي وجحيماً للعبيد الأفارقة. حكمت أقلية من ذوي البشرة البيضاء إلى جانب بعض مختلطي الأعراق والمحرَّرين (affranchis) كلّ مفاصل المستعمرة. المفارقة الكبرى في ثورة هايتي هي انطلاقها، لخلفيات طبقية، خارج غلال الاستعباد، بل بين النُخب الحاكمة والمحرَّرة حول الامتيازات والمنافع. لم تأبه مسامعهم لأنين الرازحين تحت نير سطوتهم، حتى انطلاق الثورة رسمياً، بين صفوفها الصحيحة، والتى بدّلت نظرة التاريخ السلبية لجدوى الحركات التحرّرية فيه.

فيما كان ثوّار هايتي يحاربون مفاهيم الاستعمار والاستعباد والظلم، بقيادة "توسان لوڤرتور"، من أجل حياتهم وحرّيتهم وحقوقهم، كان المحرّرون ومختلطو الأعراق يحاربون من أجل الامتيازات والمنافع في وجه الأكثر حظوة في السلطة.

لبنانياً، وفيما يحارب الثوّار اليوم مفاهيم الاستئثار والفساد والظلم والطائفية من أجل الحرية والعدالة والمساواة والحقوق، تحارب المعارضات، من أجل حصصها داخل السلطة، في وجه من عظمت حظوتهم فيها. تشارك المعارضات السلطوية العداء والبغضاء للنخب الحاكمة مع الثورات، ولكن شراكتهم هذه تبقى خارج مقولة "عدوّ عدوّي صديقي". فالخضوع إكسير السلطة والمعارضة على حدّ سواء، والثورة تتناقض جذرياً مع الإثنتين. حصل ذلك في هايتي، ويحصل في لبنان، وهذه إحدى الصور النمطية الإيجابية في تاريخ الثورات.

مع احتدام القتال في هايتي، حاولت السلطات استعادة هناءتها. رمت الثوّار بالحديد والنار، ورمت لهم، غير مرّة، فتات المستحق من بنود "الكود الأسود". في أواخر القرن السابع عشر، أصدر لويس الرابع عشر الكود الأسود لتفادي الإضطرابات المطلبية في صفوف العبيد. أدان تشويه أجسادهم أو قتلهم ولم يدِن تعذيبهم، حرّم بيعهم دون عائلاتهم لكنّه لم يُبطل تجارة الرق. هدف إلى تنظيم العلاقة بين السيّد والعبد دون همز مفهوم العبودية.

تعيد السلطة اللبنانية مع الثوّار سيناريو العصا والجزرة بكامل رتابته. ترميهم في السجون أو ترميهم بالرصاص المطاطي، وأحياناً بالحيّ. في عيون الثوّار الدامية، الرصاص المطاطي حيّ أيضاً. سجّلت مؤخّراً، بكلّ وقاحة، عودة مريبة للتعذيب. أمّا الجزرة، في قاموس السلطة، لا تقلّ عبثية عن الكود الأسود. إذ تأتي كل الحركة الحكومية اليوم في سياق تنظيم العلاقة بين التسلط والفساد وبين الفقر والبؤس والغلاء والبطالة والخضوع، دون المساس بمكامن العطب وإقلاق راحة النخبة الحاكمة. كل ما تقدّمه الدولة للمواطنين هو مجرّد "كود أسود" خبيث، بدءاً من تعاميم مصرف لبنان والترشيد المذل لسحوبات المودعين، مروراً بإعادة الراغبين من المغتربين المهجّرين والخطة الإقتصادية الحكومية، وصولاً إلى المعونات المادّية الباهتة للعائلات الأكثر فقراً. مع محاكاة سعر عبوة حليب الأطفال عتبة المئة ألف ليرة، كلّ العائلات تمسي أكثر فقراً. لم تفقه سلطات هايتي أنّ بنود الكود الأسود لم تعد على لائحة مطالب الثورة. للسلطات، في كلّ زمان ومكان، عقل نمطّي واحد، فبعد أكثر من قرنين، لم تفقه النخب الحاكمة في لبنان أنّه لم يعد على اللائحة إلّا الحرية.

يقول المؤّرخ فرانكلين نايت، إنّ ثوّار هايتي دمّروا كل النظام الإقتصادي في الجزيرة، فلم يتركوا لسلطة الاستعمار والاستعباد أيّ مقوّمات للبقاء فيها حتى هزموها. ليس السؤال اليوم إن كانت ثورة تشرين ستهزم سلطة الخضوع والفساد والمحاصصة الطائفية أم لا، فالتاريخ حازم بدروسه. السؤال محصور بالكيفية.

تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة