"ليبانون ديبايت" - روني ألفا
ليسَ لَدَينا في لبنان مَحاكِمٌ إصلاحيَّة بالمَعنى الإصطلاحي اللغوي. التسميَة غير موجودَة. لَدَينا مَحاكِم بِتَسميات كَثيرَة. محكمَة إستئناف وتَمييز. محكمَة درَجة أولَى. محكَمَة أحداث واللائِحَة تَطول. هذا هو الحقلُ المُعجَمي للمَحاكِم في لبنان. وَرِثنا معظَم تراثِنا التشريعي والعَدلي مِن فرنسا. موريس دوفرجيه، ميشال دوبريه، جان جاك شوفالييه ومئات من المشرّعين يستلهِمُهم المُحامون والقُضاة في لبنان. الأوائِل في دُفوعِهِم والثّواني في القرارات التي يُصدِرونَها باسمِ الشّعب.
إذا غَرَزنا رفشَ التنقيب في بستانِ التاريخ لوَجدنا أيضاً الرفات الفِكري لِتوما الأكويني في تَشريعاتِنا وألِكسيس دو توكفيل وسِواهما مِن الذينَ أسَّسوا لمِكتَبتنا القانونيَّة العَريقَة في لبنان.
منذُ فترَة وَجيزَة وبهمَّة مدّعي عام التّمييز القاضي غسّان عويدات وافَقَت وزارَة العَدل الفرنسيّة على تَزويد لبنان ب " السِّوار الذَّكي " لِيُعتَمَد في ما باتَ يُعرَف بالإستِجواب الإلكتروني. عِبارَة عَن حَلْقةٍ تُثَبَّتُ حولَ مِعصَم أو كاحِل الموقوف أو المُلاحق قضائياً في الجِنح والجرائم البسيطة بدلاً من وضعه في السجن. عبرَ السّوار هذا يتمّ تَحديدُ نطاق تنقّل المتّهَم في محيطه الجغرافي وتقومُ الأجهزة الأمنية بِرصدِه ومراقبتِه عبرَ تقنيّةِ " الجي بي أس ".
من المنظور التّقني لبنان متطوّر. مِن المنظور التشّريعي يُقال أنه يمتلِك أفضَل منظومَة تشريعيَّة في الشرق الأوسَط. بالرّغم من كلّ هذه المَزايا يتعثَّر القَضاء عندَ أول دعسَة في غابَة الفَساد. الإنطباع العام أنَّ قوسَ السياسَة أعلى مِن قوسِ المَحكَمَة. عِندما يخرجُ القاضي في فلتاتِ الشّوط النادِرَة عَن قوسِ السياسَة ويتسلّح بقوسِ المَحكَمَة نَنعتُه بالشّجاع والبَطَل والجَريء. أوصاف لا يفهمها الغَرب لأنه يعتبرها أقلّ الإيمان. مَن لا يمتلِك هذه الصفات بالسّليقَة لا يمكنه أن يَكونَ قاضياً. القاضي إما أن يَكون إستثنائيّاً إمّا ألا يَكون.
لا تليق كلمَة " إصلاح " إلا بالقاضي. أي إستِعمال لهذه الكلمَة في سياق حملَة إنتخابيَّة أو نقابيَّة أو رئاسيَّة هوَ مِن قبيل الإسراف والمبالَغَة. غالباً ما تتحوَّلُ الكلمَة والحالةُ هذه إلى ما يشبَه شيكاً مِن دون رَصيد. الفرق مُستَهجَن بينَ الشيك المصرفي والشيك السياسي. الأول يدخِلُك إلى السّجن. الثاني يدخِلُكَ إلى السلطَة. الإصلاحُ كَذوبٌ في السياسَة وصَدوقٌ على يَمينِ القَوس.
تَعيين القاضي سهيل عبّود على رأس مجلس القَضاء الأعلَى في لبنان كانَ صدمَة كبيرَة. في الظاهر بَدا التّعيين عَلى نَقيضِ المألوف. سلطَة سياسيَّة تزكّي قاضياً مستقلاً ليقودَ قضاءً مستقلّاً. بدَتْ السلطَةُ يَومَها مِن فصيلَة العَذارَى وبِلا دَنَس. لَم نَفهَم لماذا تنازَلَت السياسَة عَن شهيّتِها فزكَّت قاضياً كانَ مِن مصلَحتِها أن تزكّي غيرَه مِمّن هم أقرَب إلى عَجينَة طيِّعَة بينَ يَدَيها مِنه إلى إسمَنت سِيادي مسلَّح. قاضي عين كفاع لا يُحسِنُ إعراب مفرَدات مِثل " سُمِعَ هَديرُ الوزير" و "النائِبُ القَنوطُ يمارِسُ الضّغوط ". خِلنا لِفترَة أنَّ السياَسَة أعلَنَت تَوبَتَها. لَم نعلَم حينَها أنّها أتت بالقاضي عبّود لِتَوّهُّمِها أنّه سيكتفي باللّعب في الحَديقَة الخَلفيَّة. حَديقَةٌ مسوَّرَةٌ بأيدي " المُفضِلينَ " على القاضي أغلَبُ الظنّ لَن يتَجاوَزُها القاضي. تبيّنَ أنَّ عبّود قاضٍ لا يعترَفُ بالحدائِق المسوَّرَة. فاتَهُم أنه لا بدَّ للقاضي أن يَكونَ عَقوقاً تِجاه مَن زكّاه. مِن دونِ ذلك يتحوّل إلى حارِسٍ لَيلي مأجور على مَداخِل قصور الزعامات أو إلى مرتَزَق مكلَّفٍ بالإقتصاص مِن خصوم مالِكي الحَديقَة.
عندَما تقرّرُ السياسَةُ إخضاعَ الأمنِ والقَضاءِ للمحاصَصة تَخسَرُ الإثنَينِ مَعاً. الخِسارَة الأكبَر تَكونُ خسارَتَها لِذاتِها. هزيمَةٌ نَكراء للإصلاح بكلّ بساطَة. لَم تَنجَح حيثياتُ رَدِّ التّشكيلات التي صَدَرَت أخيراً في إقناعِ الرأيِ العام بأنَّ الخطوةَ تَصونُ القَضاء. بصعوبَةٍ صوَّنَتِ الناسُ ألسِنَتَها وحَبَسَتها عَن كلِّ قَولٍ فاحِش. الأسبابُ الموجِبَةُ في الرَدّ الرئاسي دَخَلَت في خانَةِ الإجتِهاد. أكثَر الأسلحة فَتكاً للإلتفاف على الحقيقَة بلغَة لائِقَة هي أسلِحَةُ الإجتِهاد.
لَم تَكَد مَفاعيل الصّفعَة هذه التي تلقّيناها مِن كَفٍّ مَبسوطَة تَهدأْ حتّى ضَربَنا إعصارُ التعيينات. محاصَصَةٌ حتّى العَظم. حتّى النُّخاعِ الشَّوكي. الأمنُ والقَضاءُ والإدارَةُ حصَصٌ في دولَةِ مُحاصَصة. كلُّ شيء تَقريباً.
خُبثُ المادَّة 95 من الدّستور. خبثُ واضِعيها. ألغَت قاعِدَة التّمثيل الطائِفي واعتَمَدَت الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني. صَدَقَت. إستَثنَتْ وظائف الفئة الأولى وما يعادِلها. بَغَتْ. سلَّمَت رقبَة الفئة الأولَى إلى سيفِ الزّعيم. موظّف فئَة أولَى ممنوعٌ عليهِ اللعب خارِج حديقَة الزّعيم. سيكونَ علينا إنتِظار مئات من هؤلاء مُستَنسَخين عَن القاضي سهيل عَبّود لنصدِّق أنَّ الماخور السياسي الذي نعيشُ فيها مرشّحٌ للتحوّل إلى دولَة.
أمّا آخرُ الأدويَة في جمهوريَّةِ كَيّ أوجاعِنا فَملاحقَةُ مُحَقّري الذاتِ الإلهيَّة. ذاتٌ تتوعّدُ تواصُلَنا الإجتماعي وتَنهَرُنا صائِحةً مَع إبي الطيّب المُتنبّي: "وَدَعْ كلَّ صَوتٍ غيرَ صَوتي فَإنَّني ... أنا الصّائِحُ المَحكِيُّ والآخرُ الصَّدَى".
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News