"ليبانون ديبايت" - عبدالله قمح
عاد منطق "تدويل الأزمة" لينشط مجدّداً إثر الهبوط الحاد في مؤشّر الحل اللبناني المنشأ. هذه المرة تختلف الصورة. التسوية اللبنانية تقع ضمن تسوية شاملة يُعمَل عليها. من أُوكلوا مهمة تسويق منطق الحل داخلياً هم السفراء، تحديداً سفراء الدول المعنية بالملف اللبناني وملفات المنطقة، بينما أضحى الشخص المعنوي اللبناني، كالمتلقّي الباحث عن "خرم إبرة" ينجو عبره من الأسوأ، حتى ولو كان ذلك عبر "تسوية بقواعد أوسع".
غداة انفجار لغم "الإثنين"، دشّن رئيس الجمهورية ميشال عون، حركةً دبلوماسيةً لافتة "قَوطبَ" من خلالها على مسعى مشابه كان يُحَضّر له رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري. إستبقى إلى طاولته كلاً من السفير السعودي ثم السفيرة الفرنسية لتتبعها الأميركية، والحبل على الجرّار. أرادَ عون إجراء مكاشفة أمام هؤلاء السفراء الممثلين لبلادهم حول مآلات انهيار إمكانية حل حكومي "صُنِع في لبنان"، وهو ما يقود إلى استنهاض هِمَم مرجعيات هؤلاء السفراء في البحث عن الحل المنشود، ويريد أيضاً أن يدلو بدلوه حيال الإتهامات التي تُساق للقصر حول ضلوعه بـ"فن العرقلة".
قبل ذلك، كانت المرجعيات الدولية قد عقدت العزم على التدخل مجدداً، لكن بشكل مختلف من حيث الأسلوب والمضمون. غداة "انفجار الاثنين"، لوحظَ تكثيف الجهات الدولية المعنية بالملف اللبناني لجهودها: حركة دبلوماسية ثنائية داخل لبنان. مؤتمر وزراء خارجية في أوروبا على رأس جدول أعماله الملف اللبناني. عربٌ استيقظوا على وضعية أن في محيطهم دولة إسمها لبنان لا بد من تأمين حل لأزمتها، مما أعاد الدفع إلى المحرّكات المصرية. غرباً، أميركيون تحديداً، يبدو أنهم على مسار إعادة تسخين الملف اللبناني.
من على منبر بعبدا، دعت السفيرة الأميركية في بيروت دورثي شيا أمس، إلى التسوية على إثر لقائها بالرئيس ميشال عون. أتى ذلك كترجمة للمسعى الدولي المستجدّ. فما كان يتردّد بالصالونات أصبح يُقال عبر الإعلام. والتسوية بمعناها الأميركي، تبدأ بملف تأليف الحكومة ولا يُعلَم أين تنتهي. كان قد سبقها إلى الدعوة نفسها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، من على متن المنبر نفسه، وقد ظنّ أنها أُجهضت نتيجة "الورم السياسي" الذي طرأ عقب حادثة الإثنين الحكومية.
في الشكل، عكست شيا أمس تغييراً بنيوياً واضحاً من حيث الأداء، وهذا يختلف عن الصورة التي قدّمتها حين كانت إدارة ترامب في عِزّ حضورها. لهذا الإنعكاس تفسيره ويمكن العثور على أجوبة حياله في حال استطلاع التوجهات السياسية الأميركية الجديدة في ضوء الإدارة الحالية ورجالاتها، الذين يركنون إلى منطق التسوية الشاملة في المنطقة، ولبنان جزء منها، بمعزل عن الإحتمال السائد دوماً حيال إمكانية وجود نوايا مبيّته غير سامية تتخفى في أعماقهم. كل هذا، معطوفاً على الحراك الأوروبي، الفرنسي ـ الألماني، يشير إلى أن ثمة حراكاً دولياً مكثفاً قد بدأ، واستدارة جنبلاط الأخيرة من حفرة التموضع إلى جانب سعد الحريري، نحو التمترس في بعبدا ضمن خانة رمادية طبعاً، نابعة من قراءة هذا المعطى الجديد.
ومنطق التسوية حضر في بعبدا على مائدة الإقليم. قبل أيام، وعلى هامش زيارة السفير السعودي وليد البخاري إلى بعبدا، اطّلع الرئيس ميشال عون على ورقة سعودية لـ"تسوية الحرب في اليمن" (المرفوضة من جانب الحوثيين)، وهذا لا يُعَد استثناءاً. ليس سراً أن تلك الورقة وُلدت أصلاً بدافع أميركي واضح، بدأ حين تقرّر شطب الحوثيين عن لوائح "الإرهاب" والإقرار بأن حرب اليمن "عبثية"، إلى جانب طبعًا وجود مصلحة سعودية في الخروج من "بركة الوحل اليمنية" ووضع حدّ للنزف الحاصل. هذا التوجّه يُمكن عطفه على محاولات التقرّب الأميركية الواضحة تجاه طهران، واستخدام "معبر عُمان" لتأمين الغرض، وبطبيعة الحال، هذا التوجّه، وبحكم الإرتباطات اللبنانية، سيجد مجالاً لتصريفه في الداخل.
حتى الآن، لم يُعلَم بالضبط بعد ما هي بنود التسوية، في شقّها الداخلي، التي يُعمل عليها. هل هي تسوية نِزاع حكومي آني يؤدي إلى ترميم ما تهدم سياسياً، وإعادة ضخ الحياة في مؤسسة مجلس الوزراء، أم هي تسوية عامة، بمعنى وضع اليد على أساس سوء التكوين في "شركة" الدولة اللبنانية وإيجاد حل مستدام لها، بمعنى الإتفاقيات والمصاهرات ضمن بيت الدولة الواحد، وتحت قبة نظام ثَبُتت عفونته؟
الفرنسيون سبق لهم وأن طرحوا هذه المعضلة على النقاش حين كان الرئيس إيمانويل ماكرون في بيروت غداة انفجار المرفأ الصيف الماضي، لكنهم عدلوا عن ذلك بعدما تعمّد تسريبها شفهياً يومها عندما أخذه الحماس وسط الجموع المحتشدة في مار مخايل. من يُعدّ مطّلعاً على التفكير الفرنسي حيال إمكانية الحل في لبنان، يُدرك سريعاً أن فرنسا لم تعد تؤمن بنظام المحاصصة القائم، وتريد إيجاد بديل له، وتوجهها هذا نابع أيضاً من فكرة المحافظة على حضورها والحدّ المطلوب من نفوذها داخل اللعبة اللبنانية، ومنها في الإقليم الواقع على شاطئ المتوسط، وقد وجدت أن اللحظة المؤاتية هي الآن. كذلك، ثمة هاجس يسكن الدولة العميقة الفرنسية، وهو الخوف من دخول طرف قوي على الساحة اللبنانية في لحظة فراغ غير مدروسة، ليفرض خياراته نحو إنتاج نظام قد لا تؤمّن فرنسا مصالحها العميقة ـ العريضة فيه. هذا يعيدنا إلى السؤال ذاته حول ماهية التسوية المطلوبة.
في الغالب، شهد لبنان على حقبات دموية عديدة نتج عنها تسوية في آخر المطاف، لكن، وبشكل عام، كانت تلك التسويات باهظة الثمن. الآن، كيف يمكن الوصول إلى التسوية المنشودة بصفر تكلفة؟ هل في السلم، أي بمعزل عن وقوع خضّات أمنية أم أنها تحتاج إلى بارود ونار؟ الفرنسيون، سبق لهم وأن نصحوا بالعبور نحو التسوية بالإعتماد على "معبر آمن"، تؤمنه المبادرة الفرنسية بطبيعة الحال. الآن، هل ما زالت المبادرة صالحة أم ما عادت كذلك؟
ثمة من يُردّد أن المبادرة الفرنسية هي أدنى كلفة نحو التسوية، تبدأ بترتيب الأمور على صعيد تأليف الحكومة، ومأسَسَة الحد الأدنى من الإصلاح، لكنها ستقود حكماً، وفي المرحلة التالية أو أنها تؤسّس إلى الدخول في خانة بحث البديل عن النظام الحالي العقيم. نصيحة هؤلاء هي التالية: إن دخول هذا النفق في السلم أسلم من دخوله في نفق الحرب، حيث تكبر التكلفة.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News