نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية مقالًا كتبه بلال صعب، زميل أول في معهد الشرق الأوسط ومدير برنامج الدفاع والأمن في المعهد، تناول فيه أهمية مواصلة الولايات المتحدة دعمها للجيش اللبناني بوصفه المؤسسة الوحيدة المتبقية في البلاد التي يُمكن أن تظل شريكًا ممكنًا في لبنان التي باتت على حافة الهاوية.
وفي بداية مقاله، يقول الكاتب إنْ أردتَ أن تشرح لأي شخص ما الذي يقصده الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز بعبارة "حالة حرب"، فليس عليك سوى أن تحيله إلى أوضاع لبنان خلال الحرب الأهلية عام 1982. إذ انتشرت في جميع أنحاء البلاد آنذاك عمليات القتل الطائفي، ووصلت الدبابات الإسرائيلية إلى مشارف العاصمة اللبنانية بيروت، وطوَّقت القيادة الفلسطينية بزعيمها آنذاك ياسر عرفات ومقاتليها، بالإضافة إلى أن كان لسوريا قوات مقاتلة في الأراضي اللبنانية، وكانت إيران تُدرِّب الإرهابيين في سهل البقاع وتستعد لإطلاق جماعة حزب الله، وفقد لبنان وقتئذ أي مظهر من مظاهر السيادة أو النظام.
ومع ذلك، وبطريقة ما تصوَّرت الولايات المتحدة أن بمقدورها إعادة بناء الجيش اللبناني في ظل هذه الحرب الهوبزية – نسبة إلى الفيلسوف توماس هوبز – والتي أدَّت إلى "حرب الجميع ضد الجميع". لكن هذه الجهود فشلت، وبلغ الفشل ذروته – كما كان متوقعًا – عند انسحاب القوات الأميركية في عام 1984 في أعقاب الهجمات المميتة والتفجيرات التي نفَّذتها جماعات شيعية لبنانية موالية لإيران ضد أفراد أميركيين.
ويتساءل الكاتب ما الذي كانت تفكر فيه الإدارة الأميركية في واشنطن في ذلك الوقت؟ ويُرجح قائلًا: ربما يكون نجاح التدخل الأميركي في لبنان في عام 1958، والذي نجح في نشر الهدوء في البلاد وانتخاب رئيس لبناني جديد، شجَّع الرئيس الأميركي آنذاك رونالد ريجان على التدخل. لكن المسؤولين الأميركيين كانوا يُدركون بالتأكيد أن لبنان في 1958 كان يختلف تمامًا ونهائيًّا عن لبنان في عام 1982.
ما الذي يدفع الولايات المتحدة لإعادة بناء الجيش اللبناني؟
ويُوضح الكاتب أن الدافع الأميركي لإعادة بناء الجيش اللبناني وترميمه في عام 1982 كان مدفوعًا بشيء أكثر أهمية، والذي استنبطه ليزلي براون، المسؤول في وزارة الخارجية الأميركية عن شؤون لبنان في ذلك الوقت، بصورة رائعة. وقال براون لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية عام 1984: "لم يكن لدينا أي خيار، كان المفهوم أن نجاح العملية الأميركية في لبنان يعتمد بالكامل على نجاحنا في إعادة بناء الجيش اللبناني".
وبعد مرور نحو أربعة عقود تقريبًا، تجد واشنطن نفسها من جديد في الوضع نفسه وفي حاجة إلى المنطق نفسه. لكن الشيء الوحيد الذي تغير هو أن لبنان في واقع الأمر في حالة أسوأ بكثير عن أي وقت مضى ويترنح على حافة الهاوية.
ولفت الكاتب إلى أن المناقشات السياسية الجارية في واشنطن، التي زادت وتيرتها خلال الإدارة الأميركية في عهد ترمب بشأن هل ينبغي للولايات المتحدة أن تضاعف من دعمها للجيش اللبناني أم تحافظ عليه كما هو، تفتقر إلى نقطة أساسية: وهي أن الجيش اللبناني، الذي طلب قائده العماد جوزيف عون هذا الأسبوع في مؤتمر المانحين بقيادة فرنسا المساعدة بشدة لبلاده، من منظور الولايات المتحدة يظل القوة الوحيدة في لبنان التي يُمكنها حماية مكانة الولايات المتحدة ونفوذها في البلاد.
وأوضح الكاتب أنه على الرغم من كل شيء، لا تستطيع واشنطن العمل مع القيادات السياسية في لبنان، لأنهم أثبتوا مرارًا وتكرارًا جشعهم وفسادهم، وأنهم غير جديرين بمناصبهم ولا يبالون كثيرًا بمحنة الشعب اللبناني الشديدة، بالإضافة إلى أنهم أنفسهم هم الذين يسيطرون على حكم البلاد منذ عقود وأذاقُوها ويلات الخراب.
وألمح الكاتب إلى أن المجتمع المدني اللبناني يمنحنا بعض الأمل، لكنه لا يزال ضعيفًا وممزقًا. وفي المقابل، يُعد الجيش اللبناني شريكًا مهمًّا للولايات المتحدة لأنه المؤسسة الوحيدة المتبقية التي تُمثل جميع الطوائف الدينية اللبنانية، والمؤسسة القادرة على القيام بمهامها على الرغم من الانهيار الاقتصادي الوطني. وتمارس الولايات المتحدة قدرًا لا بأس به من النفوذ على الجيش اللبناني لأنه يعتمد على دعم الولايات المتحدة ورعايتها من أجل الاستمرار والبقاء.
بيد أن عدم وجود بدائل أخرى لا يعني بطبيعة الحال أن تمنح الولايات المتحدة الجيش اللبناني شيكًا على بياض أو لا تهتم بعوائد استثماراتها. ومن حسن الحظ، أن هذه العائدات كانت تحقق أرقامًا جيدة جدًّا.
ويُنوِّه الكاتب إلى أن شراكة الولايات المتحدة مع الجيش اللبناني، والتي دامت لأكثر من عقد، أثمرت نتائج أكثر تأثيرًا من نتائج أي برنامج مساعدة عسكرية أميركي آخر في منطقة الشرق الأوسط، على الرغم من التحديات الهيكلية والفاسدين النافذين، بالإضافة إلى الجهات الخارجية والداخلية التي تعمل بعضها ضد بعض لتحقيق أهداف متعارضة. وقد استطاع الجيش اللبناني بالاعتماد على المعدات الأميركية وتمويل الولايات المتحدة وما تقدمه من مشورة، أن يتحول من مجرد جيش متهالك يسخر منه أقرانه في المنطقة إلى جيش محترف يحترمه المجتمع اللبناني ويستطيع التصدي لنفوذ حزب الله.
ولأول مرة في تاريخ لبنان، يتمكن الجيش اللبناني من فرض سيطرته على الحدود مع سوريا على نحو أفضل من ذي قبل، ومكافحة الإرهابيين الممولين من تجارة المخدرات، والتصدي للجماعات الجهادية التابعة للسنة في شمال البلاد، بالإضافة إلى انتشاره على طول الحدود الجنوبية التي تُسيطر عليها جماعة حزب الله.
ويستطرد الكاتب قائلًا: وبطبيعة الحال، لم تكن الأمور على الوجه الأمثل، ويوجد كثير من الأمور التي يُمكن للجيش فعلها على نحو أفضل. لكن من أسباب رفض منتقدي المساعدة الأميركية للبنان هو أن الجيش اللبناني لا يُحدد مهامه الخاصة. إذ يُنفِّذ الجيش اللبناني، على غرار أي جيش نظامي آخر، أوامر القيادة السياسية. لكن هذه القيادة السياسية عديمة الجدوى ومنقسمة. والأكثر من ذلك، تبدو النخبة الحاكمة (الأوليجارشية) في لبنان غير مستعدة لمعالجة أكبر مشكلة أمنية – الحالة المسلحة لحزب الله – بدافع الخوف أو بدافع الاهتمام بالحفاظ على حقوقهم السياسية والاقتصادية في النظام الحاكم.
ولذلك، فإن حقيقة أن الجيش اللبناني تمكَّن من إنجاز عديد من الأعمال الرائعة، على الرغم من عدم وجود توجيه مدني متماسك، أمر يستحق التقدير كثيرًا. ولهذا السبب، لا ينبغي أن يلقي المسؤولون الأميركيون باللوم على الجيش اللبناني لعدم قيامه بما يكفي لاحتواء حزب الله. وبدلًا من ذلك، يجب عليهم محاسبة جميع السياسيين اللبنانيين.
ويؤكد الكاتب أنه لكي يصبح لبنان دولة حقيقية، يجب نزع سلاح حزب الله. لكن الدفع بالجيش اللبناني إلى اتخاذ موقف أكثر عدوانية تجاه حزب الله، خاصة من دون وجود إجماع مجتمعي على هذه القضية، سيؤدي إلى تدمير الجيش ذاتيًّا. وقد استفادت الولايات المتحدة من مساعدتها للجيش اللبناني أكثر مما كانت تتوقع على الإطلاق، وهذه ليست القضية التي يجب أن تناقشها واشنطن.
لكن القضية الحقيقية التي تستحق إجراء مناقشة سياسية جادة بشأنها هي هل تتوقف الولايات المتحدة في يوم من الأيام عن دعمها المالي للجيش اللبناني أو تقلِّص من مساعدتها إلى حد كبير. وإذا حدث ذلك، فإن الولايات المتحدة ستفقِد نفوذها في لبنان، لكن ما مدى أهمية ذلك؟
هل تسمح أميركا بفقدان موطئ قدم في لبنان لصالح إيران أو روسيا؟
يجيب الكاتب قائلًا: في الوقت الذي تُقلل فيه الولايات المتحدة من تركيزها على منطقة الشرق الأوسط، وتصرف انتباهها إلى مناطق أخرى ذات أولوية، لا يبدو هذا السؤال سؤالًا دقيقًا يحتاج للإجابة عنه. إذ إن فقدان أميركا موطئ قدم في لبنان يعني بالضرورة تسليم البلاد إلى إيران، وربما إلى روسيا، التي تنتشر في سوريا المجاورة بقوة. وقد يسمح الجيش اللبناني الضعيف لتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بالعودة إلى البلاد وإعادة تجميع صفوفه على مستوى المنطقة.
ويختتم الكاتب مقاله بالتأكيد على أن هذه النتائج تُعد عواقب وخيمة للولايات المتحدة. ولكن ما مدى استعداد الولايات المتحدة للتعامل مع لبنان بوصفه أولوية في ظل وجود كثير من المنافسين لها للسيطرة على لبنان؟ من المؤكد أن إحجام النخبة الحاكمة في لبنان عن إصلاح البلاد وإنقاذها من الانهيار الكامل يزيد الأمور تعقيدًا على المسؤولين الأميركيين. ويبدو أن واشنطن اكتشفت في لبنان الوسائل، لكنها ربما لم تكتشف الغايات حتى الآن.
اخترنا لكم



