فتات عياد
افتتح مجلس النواب جلسته أمس، بالوقوف دقيقة صمت حداداً على وفاة النائب مصطفى الحسيني. لكنه بخل على عكار بالوقوف تحية لروح 30 ضحية سببتها مجزرة التليل. ومع أن المجلس النيابي يفترض أن يكون "ممثلاً للشعب"، إلا أنه بخل في "التمثيل" على أهالي عكار –وهم من هذا الشعب- بالتضامن مع مصابهم الأليم!
وضحايا المجزرة كانوا "وقوداً" للتهريب عبر الحدود، المغطى سياسياً من نواب المنطقة وأحزابها، ووحدها الأعلام اللبنانية كانت شاهدة على "لبنانيتهم" في بلد لطالما همشت منظومته، أهالي هذه المدينة...
عكار على الهامش
أهلاً بكم في عكار، قعر جهنم اللبنانية، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا شبكة انترنت. أهلاً بكم في مدينة احترق شبانها، في سبيل تأمين بضع ليترات من البنزين، وهم إذا أرادوا اضاءة منازلهم في ليال حارة مظلمة، أطفئت حياتهم إلى الأبد.
أهلا بكم في مدينة الشاب خالد شريتح، الذي بعد فقدانه الأمل بالهجرة من لبنان، علقت على لسانه عبارة واحدة "يا ريتني موت"، فكأنه كان يعلم أن الموت في تلك البقعة من الأرض كان مصيره المحتم. لقد قتلت احلام شباب هذه المدينة، لقد اغتيل اهالي عكار حتى قبل موتهم، لا بل "حرقهم"، بنار المنظومة القاتلة!
وتهميش عكار ومعاملتها على أنها خارج الدولة ليس أمراً مستجداً، فلسنوات ظل أقصى حلم شبابها الالتحاق في الجيش لتأمين مصدر رزق وضمان وتعويض نهاية الخدمة. إذ لا جامعات ولا وظائف ولا استثمارات في المنطقة. وكل هذا يهون، أمام الاستخفاف بفاجعة التليل التي أزهقت روح 31 ضحية، بعد انضمام الشاب عمر الجداع إلى قافلة الضحايا اليوم، عدا عن إصابة 80 شخصاً بحروق، بعضها بالغ جدا.
وعكار، خزان الجيش اللبناني، لم يجد رئيس الجمهورية ميشال عون سبيلا لمواساتها في مصابها غير الإشارة في حديثه خلال جلسة المجلس الأعلى للدفاع عن "خلايا نائمة"، وتذكير اللبنانيين انه كان قد حذر من تلك "الخلايا" قبل حصول الفاجعة.
والرئيس عون "يقظ" إذاً، هو ليس نائماً في بعبدا كما يظنه الكثيرون. لكن اليقظة البيولوجية للجسد وحدها لا تكفي. فلو كانت ضمائر حكام لبنان في حالة يقظة، لما وصلت البلاد إلى انهيار هو الأسوأ منذ 150 عاماً. وما عرف رئيس الجمهورية، بوجود نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت ولم يحرك ساكناً فيمنع انفجار 4 آب، ولما حصلت محرقة عكار لولا اتخذ قرار سياسي بوقف التهريب!
وبعد إيحاء "بي الكل" أن "شبح" الإرهاب في عكار تسبب بالمحرقة، هبّ صهره رئيس "التيار الوطني الحر"، جبران باسيل، إلى الدعوة لإعلان عكار منطقة عسكرية "لتأمين وحماية سكانها"، لكن بدا في دعوته هذه "مشيطناً" للمنطقة، لاجماً فواجعها بعيداً، متنصلاً -وتياره جزء من السلطة الحاكمة- من المسؤولية تجاه مصابها!
لكن عكار ليست بحاجة لدفع تهمة الإرهاب عنها، فالإرهاب هو ما تعرضت له المدينة من حرمان مقصود وممنهج لعقود عدة، توّج بمجزرة التليل، وما رافقها من تسخيف للجريمة، لا بل ووصم للمنطقة وأهلها بالإرهاب، وبالتالي، جلد الضحية!
وليس التيار الوطني وحده الذي يتعامل مع عكار بهذه الطبقية، التي تنحو نحو العنصرية، فثوار شمال لبنان والبقاع، سيقت بحقهم تهمة الإرهاب في المحكمة العسكرية. فيما ثوار بيروت، سيقت بحقهم تهمة "السرقة"، بعد اقتحامهم منزل النائب عن عكار طلال المرعبي، في نقل مباشر، كردة فعل على مجزرة عكار!
هي إذاً تهمة جاهزة، لا يخشاها رئيس تيار المسقبل سعد الحريري، "بي السنة" في لبنان، والخائف على "حجارة" سوليدير. فعكار وطرابلس، اللتان لطالما كانتا بيئة حاضنة للمستقبل، لم تسلما من توجيه الحريري أصابع الإتهام لهذه المناطق بالتخريب في وسط بيروت، والضلوع في أعمال مخلة بالأمن بعد ثورة 17 تشرين 2019 وما تبعها من احتجاجات.
ولم يتعاط الحريري مع مجزرة عكار بمسؤولية، هو الذي وضع صورتي انفجار مرفأ بيروت وانفجار مخزن التليل وذيلهما بوسم #عهد_جهنم. استثمر الحريري فالإنفجار سياسياً، لمصلحة معركته مع الرئيس عون. ونسي أنه هو من أوصل "الرئيس القوي" إلى سدة الرئاسة، وهو ايضا من يمنع التحقيق بانفجار مرفأ بيروت، مع توقيع نواب في كتلته النيابية على عريضة لمحاكمة النواب المستدعين في القضية في محكمة خاصة للرؤساء تنصلا من رفع الحصانات. والحريري، تثار حول نواب تياره في عكار شبهات حول تهريب الوقود إلى سوريا!
وأمام تهمة الإرهاب التي لا يخجل المسؤولون في اتهام أكثر مناطق لبنان عوزاً بها، يبقى التعاطي السياسي مع عكار هو الإرهاب بعينه! فأهلها يموتون كل يوم ألف ميتة، وكانت طائرات الدول المجاورة أحن عليهم من دولة لم يبق فيها مقومات لعلاج مرضاها!
عكار عاتبة: التغطية الإعلامية ليست بحجم الكارثة!
وكما في فيلم التايتانيك تبدو فرص الأغنياء أكبر بالنجاة من الغرق، ويرمى الفقراء بلا قوارب نجاة، هكذا تماماً تُرك العكاريون في مأساتهم، فكأن انفجار التليل مصابهم وحدهم، أو كأن الموت لهم عادة، أو أنهم سعوا للشهادة. مع أن أحداً لا يفدي الفاسدين بروحه، فكيف بفقراء ماتوا على يد من أمعن في تهميشهم وتفقيرهم؟
وبدا موت أهالي عكار امراً اعتيادياً، أو كأن صوتهم يزعج مسؤولي لبنان، الذين يريدون لهم الموت "عالسكت". ولم يكن الإعلام بمنأى عن هذا التهميش، فكم من حادثة أقل بكثير من حجم هذه الكارثة، فتح لأجلها هواء الشاشات 24/24 ساعة؟
والمجزرة الحقيقية هي في غياب الدولة في عكار، وتهميشها المستمر. وحتى في كوارثها، ومشاهد الناس المحروقة، مع ما تعنيه الصورة من "جهنم" ملموسة على الأرض، بدت الصورة عابرة، كأن التهميش هو قدر عكار الذي لا مفر منه!
ولا اقتحام إعلامياً لبيوت الأهالي المنكوبين في مصابهم، لا نقل مباشر لتشييع عشرات ضحايا البلدة، لا استصراح لأهالي الضحايا، لا خدش لخصوصيتهم كما جرت العادة. حتى أن تقارير النشرات الاخبارية بدت بمعظمها -عابرة- بعد ايام على الحادثة. ولم تخصص حلقات مسائية لتغطية الفاجعة ونقل مآسي أهلها.
و هنا لا مكان للاستثمار الإعلامي. لكن ماذا عن الاستثمار العاطفي الذي اعتادته غالبية القنوات اللبنانية؟ أم أن حزن "الفقراء" من القوم لا يؤثر بالمشاهدين؟ أم أن مشاهد الفقر في بيوت قد يصعب تصديق انها في لبنان، "تزعج" الكثيرين؟ ثم هل كثير على الفقراء المحزونين، أن يحصدوا التضامن؟
في الإطار، يقول أحد أبناء عكار في حديث لـ"التحري"، "لم تكن التغطية الإعلامية على حجم الكارثة، فالإعلام غاب كليا اثناء تشييع ضحايانا". وحتى "سياسيو عكار تريثوا في التعليق على انفجار التليل، لأنهم جميعهم في موقع المسؤولية لناحية تغطية التهريب". وحتى "رجال الدين الذين يمثلون فاعليات المنطقة، يتم طردهم من التشييع".
هو سخط عكار إذاً، من كل من همّشها وأفقرها وباعها الوعود الكاذبة، هو سخطها ممّن "قتلها" وأراد السير في جنازة ضحاياها!
عكار... امتداد لجهنم اللبنانية!
"شو خص ثوار بيروت"، قالها البعض لدى دخول ثوار في بيروت إلى منزل النائب عن عكار طارق المرعبي، كردة فعل على مجزرة التليل. ونسي هؤلاء كيف هبّ الجميع لنجدة أهالي بيروت يوم انفجار 4 آب. ونسوا أيضاً أن المنظومة الحاكمة في لبنان لا تتجزأ، وكذلك الكوارث الإنسانية التي تنتج عنها، من تخزين أكثر من 2000 طن من نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، وصولا الى تهريب الوقود الى سوريا وانفجار التليل.
وذكّرت مجزرة عكار، أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، بأحبائهم الراحلين. من جهته، دعا ويليام نون، شقيق ضحية انفجار 4 آب، جو نون، للتضامن بين اللبنانيين يدا بيد، للوصول للعدالة ومواجهة المنظومة الحاكمة المعرقلة لها.
"ذاهبون إلى جهنم". قالها ميشال عون، قبطان سفينة التايتانيك اللبنانية. لكنّ جهنم "درجات". ولعكار وأهلها الدرجات "الدنيا"!
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News