تعثّرت الخطط العسكريّة الروسيّة في تحقيق أبسط أهدافها الأولية من الحرب ضدّ أوكرانيا، مصطدمة بمشكلات بنيويّة ووظيفية خطرة في الجيش الروسي من ناحية وبمقاومة أوكرانية صلبة كانت مهيّأة لمثل هذه الحرب وأعدّت لها العدّة بشكل ممتاز من ناحية أخرى. هذا الأمر فرض على الروس إعتماد استراتيجية جديدة أكثر عملانية على الأرض، تقضي بخفض سقف طموحاتهم من الحرب والتركيز على الجبهة الشرقيّة والجنوبيّة الشرقيّة بشكل رئيسي في محاولة لإنشاء "دولة رديفة" أو مجموعة مناطق "مستقلّة" تدور في فلك موسكو. وبالتالي، فرض أمر واقع عبر تقسيم البلاد و"قضم" المناطق المحتلّة تدريجاً لضمّها لاحقاً وربط شبه جزيرة القرم برّياً بروسيا، في ما وصفه مراقبون بـ"الخطّة ب" للقيادة في موسكو لحفظ ماء وجهها في حرب ما زالت تخسر فيها على الصعيدَيْن الإستراتيجي والتكتيكي.
وفي هذا الصدد، كشف رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية كيريلو بودانوف أنّ روسيا قد ترغب في ترتيب انفصال على الطريقة الكورية في أوكرانيا، وكتب على "فيسبوك" أن "بعد الفشل في الاستيلاء على كييف والإطاحة بالحكومة الأوكرانية، يُغيّر (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين توجهه العملاني"، مركّزاً على "جنوب وشرق" البلاد. وأضاف: "هناك أسباب للاعتقاد أنّه يُمكن أن يفرض خطاً فاصلاً بين المناطق المحتلّة وغير المحتلّة في بلادنا، في محاولة لإنشاء (نموذج) الكوريتين الجنوبية والشمالية في أوكرانيا".
ورأى بودانوف أنّ الروس "سيُحاولون إقامة نوع من الدولة البديلة من الدولة الأوكرانية المستقلّة"، وقال: "نرى أنهم يُحاولون إقامة حكومات محلّية موازية في المناطق المحتلّة وإلزام الناس بالتخلّي عن العملة الأوكرانية"، لافتاً إلى أن أوكرانيا ستشنّ قريباً "حرب عصابات" في الأراضي التي تحتلّها روسيا. وتأتي مواقف المسؤول الأوكراني في وقت أحدثت فيه القيادة الروسية مفاجأة الجمعة بإعلانها "تركيز معظم الجهود على الهدف الرئيسي: تحرير دونباس".
وزاد ما كشفه زعيم منطقة لوغانسك الإنفصالية ليونيد باسيشنك المخاوف من تقسيم البلاد، حيث أعلن أن منطقته قد تُنظّم استفتاء على الإنضمام إلى روسيا، بينما سارعت كييف إلى انتقاد الاقتراح الذي وصفه المتحدّث باسم الخارجية الأوكرانية أوليغ نيكولينكو بأنّه جزء من الجهود الروسية المتواصلة "لتقويض سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها"، معتبراً أن "الاستفتاءات الزائفة في الأراضي المحتلّة موَقتاً جميعها لاغية وباطلة ولن يكون لها أي شرعية قانونية".
وفي الأثناء، تحدّثت هيئة الأركان الأوكرانية في بيان عن أن القوات الروسية انسحبت نحو بيلاروسيا من أجل تنظيم صفوفها وتعزيز إمداداتها من الذخيرة والوقود والغذاء، فضلاً عن إجلاء الجرحى والمصابين، مؤكدةً من جهة أخرى أن كافة المحاولات الروسية للسيطرة على مدينة ماريوبول الساحلية الإستراتيجية في جنوب شرق البلاد باءت بالفشل. كما كشف مستشار الرئيس الأوكراني أوليكسي أريستوفيتش أن القوات الروسية تُحاول تطويق وحصار قوات بلاده شرقاً، لافتاً إلى أن القوات الأوكرانية تشنّ هجمات مضادة.
ويبدو أن الخناق الروسي بدأ يخفّ في بعض المناطق في جنوب أوكرانيا. ففي ميكولايف، بدا أن التهديد يتراجع في الأيام الأخيرة، بحسب مشاهدات وكالة "فرانس برس"، بعدما شهدت المدينة أسابيع رهيبة حاول خلالها الجيش الروسي السيطرة على هذه المدينة الرئيسية الواقعة على طريق أوديسا، أكبر ميناء في أوكرانيا، لكن من دون جدوى. حتّى أن حدّة المعارك على الجبهة انخفضت بشكل ملحوظ، مع هجوم مضاد تشنّه القوات الأوكرانية على خيرسون الواقعة على بُعد 80 كلم نحو الجهة الجنوبية الشرقية، وهي المدينة المهمّة الوحيدة التي أعلن الجيش الروسي السيطرة الكاملة عليها.
تزامناً، استعادت القوات الأوكرانية السيطرة على مدينة تروستيانتس في شمال شرق البلاد، بحسب وزارة الدفاع الأوكرانية، في وقت فرّ فيه أكثر من 3 ملايين و800 ألف شخص من أوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي في 24 شباط، بحسب الأمم المتحدة. وفي المجموع يُعتقد أن أكثر من 10 ملايين شخص، أي نحو ربع عدد السكان، فرّوا من ديارهم، وعَبر بعضهم الحدود بحثاً عن ملجأ في البلدان المجاورة، بينما وجد آخرون ملاذاً في مكان آخر داخل أوكرانيا.
ديبلوماسيّاً، حذّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من "تصعيد الكلام والأفعال في أوكرانيا" غداة تصريحات للرئيس الأميركي جو بايدن وصف فيها نظيره الروسي فلاديمير بوتين بأنه "جزّار". وقال ماكرون لقناة "فرانس 3" الفرنسية: "لن أستخدم هذا النوع من الكلام لأنّني لا أزال على تواصل مع الرئيس بوتين"، داعياً إلى "وقف الحرب التي بدأتها روسيا في أوكرانيا من دون الدخول في حرب جديدة".
ولفت ماكرون إلى أنه سيتحدّث مع بوتين اليوم أو غداً لتنظيم عملية إجلاء لسكان مدينة ماريوبول المحاصرة والتي تتعرّض لقصف عنيف منذ أسابيع، فيما دعا وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان خلال مؤتمر حواري في الدوحة إلى مواصلة التحدّث إلى الرئيس الروسي حتّى يُدرك "الثمن المرتفع جدّاً" لغزو أوكرانيا ويقبل بالتفاوض.
وبعدما كان بايدن قد صرّح السبت من وارسو بأن بوتين "لا يُمكنه البقاء في السلطة"، وبأن الحرب في أوكرانيا "فشل استراتيجي لروسيا"، الأمر الذي أوضحه البيت الأبيض لاحقاً قائلاً إن بايدن لم يدع في كلامه هذا إلى "تغيير النظام" في روسيا، اعتبر المتحدّث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف أنّه "على أيّ رئيس دولة أن يبقى حذراً"، مضيفاً: "وطبعاً، كلّ مرّة، تضيّق الإهانات الشخصية من هذا النوع نطاق علاقاتنا الثنائية مع الإدارة الأميركية الحالية".
وفي غضون ذلك، يلتقي وفدان روسي وأوكراني في تركيا اعتباراً من اليوم وحتّى الأربعاء في إطار جولة مفاوضات مباشرة جديدة، وفق ما أعلن أحد المفاوضين الأوكرانيين دافيد أراخاميا. كذلك، نقلت وكالات الأنباء الروسية عن كبير المفاوضين الروس فلاديمير ميدينسكي أن جولة تفاوض جديدة ستُعقد، لكنّه أشار إلى يومَيْ الثلثاء والأربعاء من دون أن يُحدّد المكان، فيما اعتبر المتحدّث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين أن على بلاده والدول الأخرى التحدّث مع روسيا للمساعدة في إنهاء الحرب، مشيراً إلى أن كييف بحاجة إلى مزيد من الدعم للدفاع عن نفسها.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News