قَرَضوا الدنيا على منهاجِ المسيح

"ليبانون ديبايت" - روني ألفا

انتقلَ الشيخ عفيف النابلسي الى الأَخدار السماوية. كانَ قارئًا ضدَّ تصفُّحِ التَّرف. يومَ كان الكتابُ عظيمَ الأثَر وجدَ النابلسي اليافِعُ في خمسينيّاتِ القرنِ الماضي ضالَّتَه في استعارتِه من المتعلِّمينَ والمثقفينَ في البيساريَّة وجوارِها.

لم تعتَبْ عليه العاميَّةُ لبلاغَةِ فُصحاه ولا تمَلملَتْ فُصحاهُ من فَصاحَةِ عامِّيَّةِ شعرِه. كأني بالشيخ الجليلِ يُتقنُ الغزَلَ العُذريَّ بعَفافِ الكلمة. يواسي فُصحى الفَراهيدي معلنًا استراحَتَها المؤقَّتة على رجاء العامِّيَّةِ قبلَ أن يرشقَ لغةَ خليل روكز العابِقَةَ في وادي الليمون بزخّاتِ فُصحى تقلِّمُ أغصانَها.

نشأَ النابلسيُّ العُلَمائي على القرآن. حفِظَهُ عن ظهرِ قلبٍ فاستَحَقَّ تَجويدَ آياتِه. رافَقَتهُ السُّوَرُ تحتَ الوسادةِ على سرير المرض. مرضٌ عالجَه النابلسي بحِكمةِ التوكُّل. ذوّبَ إرادَتَه بمشيئة الله. الموتُ جزءٌ مِن الحياة. الحياةُ جزءٌ مِن الموت. الاثنان متَّحِدان في الذاتِ الإلهية. لا فدرالية تشوِّهُ مركزيةَ الله في قلبِ الشيخ النابلسي.

يَستقي الشيخُ استثنائيَّتَه بأشياءٍ لَم تُقَل. مسيحيَّتُه الثقافيةُ المنسجمَةُ بإبداعٍ مع اسلامه المتَّقِد عقيدةً والتزامًا. نعى المطران إيلاريونْ كبُّوجي كما لو أنَّ النَّعيَ مكتوبٌ بحبرِ رقيمٍ بطريركي.

ربْطُه لبنانَ بالمقاومةِ أشدُّ التحامًا من زواجٍ ماروني. الى أن تفرِّقُهما القيامة. عِنْدَ هؤلاء المجيءِ الثاني وعند أولئك خَلجاتُ ترقُّبِ المنتظَر. لَولا المقاومةُ لمَا كان لبنان. هي لام التعريف للبنان. من المَعاوِلِ التي نَحتَت الصخرَ في قَنّوبين الى جبَلِ عامل النَّاحتِ ل " أدهم " و" خنجره " والرِّفاق. لا عجب. لبنان والمقاومة كالخاتم والإصبع. مشدودان. الواحد يحفرُ في الآخَر أَثلامَ وفاءِ العِشرَة. إنتراعُ أحدِهِما لا يتمُّ إلا قسرًا وبالبَتر.

رحلَ النابلسي. لم ترحلْ فِلسطين مع جثمانه. هو أُنزِلَ ليرتقي. هي ارتَقَتْ بما أُنزِلَ في أرضِها مِن جثامينِ شهداء. لم يساوِرْهُ شكٌّ طوالَ حياتِه أنَّ الكِيانَ الى زوال. سبَقَنا جميعًا إلى هذا اليقين. كان مُقنِعًا لأنه كان صادقًا. لذلك التزَم مُخالفوه الصَّمت. كيف تواجهُ شيخًا صادقًا لا يوافقك الرأي. تُحاجِجه. إجتَهِد في تَتَبُّعِ البرهان من أرسطو إلى شوبنهاور. يمكن ان تربح على النابلسي الجليل في التكتيك. في الإستراتيجْيا المسألة فيها نَظَر.

"انتَ الأَولى بذلك. أكتب لنفسِك". قالها له الإمام محمد باقر الصدر. كلَّفه فَشرَّفَهُ. اضطُهِدَ ونُفي. لم يكن طريَّ العودِ في مقاومة البعث العراقي. كان نموذجًا في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي الى جانب الشيخ راغب حرب والسيد عباس الموسوي لاحقًا. كتبَ في المقاومةِ كلامًا كان ممنوعًا سرعان ما صار مسموعًا.

عن دورِ عَليٍّ في فتحِ مكّةَ وقد خصّص الواقعةَ- المنعطفَ في كتاب، لمْ أقرأ بُعدًا حَدثيًا. الأكَمَةُ بالطبع إنما ما وراءها أيضًا. الرومُ والفرسُ تَمخَّضا منذ العام الثامن للهجرة. صارا فصيلًا واحدًا اسمُه الصهيونيَّة اليوم. عَليٌّ أيضًا في عَينِ المعركة. خاضَها ضدَّهم في أنصارية، في العناقيد، في الخيام، في قانا وبنت جبيل ومارون الراس وخلّة وردة وفي كل دسكرة حتى نَصْبِ الخيمتَين. عليٌّ مع بقايا من رجال الله في الإنجيل والقرآن مؤمنونَ بالفتحِ الجَديد رغمَ تنمُّرِ الكَون.

عن علاقَةِ المسيحيين بأهلِ البيت كأني مِن نعشه يُردِّد الشيخُ النابلسي قولَ عَليٍّ عليه السلام مُخاطبًا نوف متسائلًا عما إذا كان راقدًا او رامقًا: يا نوف طوبى للزّاهدين في الدنيا الراغبينَ بالآخرة، أولئك قومٌ اتخذوا الأرضَ بساطًا وترابَها فِراشًا وماءَها طيبًا والقرآن شعارًا والدعاء دِثارًا ثم قَرضوا الدنيا قَرضاً على مِنهاجِ المسيح..."

زرتُ الشيخَ الجليل في العام 2018 في المستشفى. قدّمتُ له ذخيرَةً مِن ثوب القديس شربل أَودَعَني إياها أحد الرهبان المَوارِنَة خصيصًا له وأيقونَةً صغيرةً للقديس كريستوفر شفيعُ المسافرين. الأولى لتحميه مِن غَدْراتِ الزمان. الثانية لِتواكبَه في رحلة حياته. عهدي بالجليل أنَّ قديسَ عِنّايا وشَفيعَ المُسافِرينَ كريستوفر يُواكبانَه ويُسهمان في توسيعِ ظلمةِ قبْرِه الذي لا شكَّ بإذنِ الله يَشعُّ نورًا وهُدى.