ليبانون ديبايت - محمد المدني
في خضمّ الأزمات الوطنية التي تعصف بلبنان، تبرز مفارقة خطيرة هي ملف العلاقات اللبنانية - السورية، الذي يُعدّ من أعقد الملفات وأكثرها تماساً مع السيادة والأمن والإقتصاد، يُترك على هامش النقاش البرلماني، وكأنّه مسألة ثانوية أو محرّمة.
وحدهم قلّة من النواب تجرّأوا على كسر جدار الصمت، وطرحوا المسألة على طاولة البحث، رغم حساسيتها وتشعّباتها. فلماذا هذا الصمت؟ ولماذا تحوّل هذا الملف الحيوي إلى منطقة "محرّمة" سياسياً وإعلامياً؟
الإجابة تكمن في ثلاث معادلات سياسية متداخلة. أولاً، معادلة المحاور الإقليمية، حيث لا يزال العديد من النواب أسرى منطق الإصطفافات الجيوسياسية، ويخشون كسر "التابوهات" التي فرضتها صراعات الإقليم. فبالنسبة للبعض، مجرد الحديث عن إعادة تنظيم العلاقة مع سوريا يُعدّ انحيازاً سياسياً لمشروع إقليمي معيّن، حتى ولو كان الهدف وطنياً بحتاً. لذلك، تفضّل بعض الكتل "الإنتظار" علّ التطورات الإقليمية تمنحها الغطاء لاحقاً.
ثانيًا، معادلة التوازنات الداخلية، حيث أصبح الملف السوري بمثابة "كرة نار" داخل مجلس النواب. فالخلافات الحادة بين الكتل، والتجاذبات الطائفية والسياسية، جعلت من هذا الملف نقطة انقسام حاد. بعض النواب يخشون خسارة جزء من قواعدهم الشعبية، وبعضهم الآخر يفتقر إلى الغطاء السياسي لاتخاذ موقف واضح. وفي غياب توافق وطني أو حتى حكومي، يستمر التهرّب من طرح المسألة على نحو مؤسساتي.
ثالثًا، معادلة العزوف السياسي، حيث تراجعت فاعلية المؤسسات وتقدّمت "سياسة الأمر الواقع" على القرار السيادي، ما أدّى إلى تحوّل ملف العلاقات مع سوريا إلى منطقة مهمّشة داخل النقاش العام. أضاف إلى أن ثقافة "البراغماتية السلبية" طغت على حساب المبادرة الوطنية، وبات السكوت هو الخيار الأسهل لتجنّب المواجهة.
لكن هذا الصمت لم يعد ممكناً ولا مقبولاً، فلم يعد بالإمكان التعامل مع الوضع السوري كأنه شأن خارجي لا يمسّ الداخل اللبناني. فالأحداث المتسارعة في السويداء، وما تحمله من توتر إجتماعي ومواجهات أهلية وطائفية، بدأت تترك بصماتها بوضوح على المزاج اللبناني، وخصوصاً في الأوساط الدرزية التي تشهد حالة غضب وتعاطف غير مسبوق مع أهالي السويداء، وسط خشية حقيقية من تمدّد التوتر إلى الداخل، في ظل التشابك الطائفي العميق بين المجتمعات على جانبي الحدود.
هذا الغضب الدرزي لا يعبّر فقط عن تضامن شعبي، بل يكشف عن شعور عارم بالهشاشة والإنكشاف، وكأن ما يحدث في جبل العرب قد يتكرر في أي لحظة داخل الجبل اللبناني. ومعه، يبرز قلق سنّي موازٍ، يتمثل في الخوف من سقوط ما تبقّى من الشارع السنّي في سوريا، وهو الشارع الذي ظلّ لفترة طويلة في موقع الخصومة أو المعارضة للنظام السابق، لكنه اليوم بات في موقع الضحية الصامتة، وسط غياب شبه كامل لأي حماية إقليمية أو دولية.
إن تفاعل البيئتين الدرزية والسنّية في لبنان مع تطورات الداخل السوري لا يُعدّ تفصيلاً عابراً، بل هو مؤشر واضح على أن الأمن السوري بات متشابكاً عضوياً مع الأمن اللبناني. وما من مسؤول، في المجلس النيابي أم الحكومة، يملك ترف تجاهل هذه الحقيقة. فهل من المنطقي الإستمرار في تجاهل هذا الملف الذي بات جزءاً من يوميات اللبنانيين، أمنياً، وسياسياً؟
ألم يحن الوقت لمقاربة هذا الملف بجرأة ومسؤولية، في وقت تتفاقم فيه أزمة النزوح، وتتحوّل الحدود الشرقية إلى ثغرة أمنية واقتصادية، وتتزايد الفرص الإقتصادية الضائعة بين البلدين؟ إنّ الصمت هنا ليس صمت العقلاء بل صمت المراوحة والخوف، ولبنان لم يعد يملك ترف التردد. فالعلاقة مع سوريا ليست خياراً سياسياً، بل ضرورة جيوسياسية تفرضها الوقائع، من ضبط الحدود، إلى إعادة النازحين، إلى التنسيق الزراعي والصناعي إضافة إلى حماية السيادة من التهريب والإنفلات.