"ليبانون ديبايت" - باسمة عطوي
لا يوفر مرتكبو جرائم تبييض الأموال وسيلة لتحقيق مبتغاهم، ومن ذلك الخوض في تجارة اللوحات الفنيّة، لأن عالم الفن ببذخه، الذي يبدو أحيانًا بعيدًا كل البعد عن رتابة الحياة اليومية، ويُدفع فيه أسعار فلكية ثمنًا للوحات، وتجتمع فيه النخبة في المعارض والمزادات الكبيرة، يتحوّل إلى وسيلة لإخفاء أصول الأموال التي تمّ الحصول عليها بطريقة غير مشروعة.
لذا، يمكن وصف تبييض الأموال عبر تجارة اللوحات والأعمال الفنية، بأنه "فن أسود" رائج في كل دول العالم، ومنها لبنان. والعديد من الشخصيات التي فُرضت عليها عقوبات من قبل وزارة الخزانة الأميركية، هم ناشطون في هذه التجارة، لأنها من أقل الأسواق التي تتدخل فيها الدولة بتشريعات وقواعد منظمة. فالسرية عنصر أساسي في عالم الفن، وعدم الكشف عن الهوية يحمي الخصوصية، ويضفي المزيد من الغموض، وقد يرفع من قيمة مثل هذه المعاملات، بالإضافة إلى سهولة إدخال الأعمال الفنية وإخراجها من دون الحاجة إلى جواز سفر.
وتتسم سوق الفن الشرعية في حد ذاتها بأنها ضخمة، حيث تُقدّر بمبلغ 67.4 مليار دولار على مستوى العالم في نهاية عام 2018، ويبلغ معدل النمو السنوي حاليًا في سوق اللوحات والأعمال الفنية نحو 7 في المئة، وسط توقعات بأن يصل حجم السوق إلى ما بين 130 إلى 160 مليار دولار سنويًا خلال السنوات المقبلة.
يشير الخبراء إلى أن "هناك مبادئ أساسيّة لغسيل الأموال من خلال بيع وشراء اللوحات الثمينة، مثل المبالغة في الأسعار أو خفضها، إذ قد يتلاعب المرتكبون بأسعار الأعمال الفنيّة لتسهيل غسل الأموال، كما أنّ المبالغة في تسعير العمل الفني يسمح بنقل الأموال إلى البائع بينما تظهر كعملية بيع مشروعة، وعلى العكس من ذلك، يمكن استخدام التسعير المنخفض لنقل الأصول عبر الحدود سرًّا.
ويُعد استخدام الشركات الوهميّة تكتيكًا سائدًا في غسيل الأموال القائم على الفن، حيث ينشئ المرتكبون هذه الكيانات المزيّفة لإجراء معاملات فنية، مما يؤدي إلى حجب الملكيّة الحقيقية للعمل الفني، بالإضافة إلى العمولات المتضخّمة، حيث يمكن لتجّار الأعمال الفنية والوسطاء أن يلعبوا دورًا حاسمًا في مخطّطات غسيل الأموال، ومن خلال تضخيم عمولاتهم، فإنهم يسهّلون حركة الأموال غير المشروعة بينما يبدو أنهم يقومون بأعمال مشروعة.
كما تشمل هذه المخططات إجراء مزادات رفيعة المستوى، والتي تجتذب المشترين الأثرياء وتوفّر منصة مثالية لغاسلي الأموال، حيث إن عدم الكشف عن الهوية الذي توفّره المزادات، إلى جانب إثارة الحدث، يمكن أن يجعل من الصعب على السلطات فحص المعاملات. وغالبًا ما يُنشئ غاسلو الأموال هياكل ملكية معقّدة، تتضمّن صناديق ائتمانية، وحسابات خارجيّة، وكيانات مجهولة المصدر، لزيادة إخفاء الملكية الحقيقية للأعمال الفنية".
تبييض الأموال في القانون اللبناني
أمام كل هذه الأساليب المُعقّدة التي يمارسها مرتكبو جريمة تبييض الأموال عبر تجارة اللوحات الفنية، فإن القوانين الموضوعة تطالهم (سواء في لبنان أو العالم)، ضمن مكافحة كل عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
ففي القانون اللبناني رقم 44 / 2015 المتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، تنص المادة الثانية منه على أن جرم تبييض أموال يُقصد به كل فعل يُراد منه "إخفاء المصدر الحقيقي للأموال غير المشروعة أو إعطاء تبرير كاذب لهذا المصدر، بأي وسيلة كانت، مع العلم بأن الأموال موضوع الفعل غير مشروعة، وتحويل الأموال أو نقلها، أو استبدالها أو توظيفها لشراء أموال منقولة أو غير منقولة، أو للقيام بعمليات مالية بغرض إخفاء أو تمويه مصدرها غير المشروع، أو بقصد مساعدة أي شخص متورط في ارتكاب أي من الجرائم المنصوص عنها في المادة الأولى، على الإفلات من الملاحقة مع العلم بأن الأموال موضوع الفعل غير مشروعة".
ويعتبر القانون "جريمة تبييض الأموال جريمة مستقلة ولا تستلزم الإدانة بجرم أصلي، كما أن إدانة الفاعل بالجرم الأصلي لا يحول دون ملاحقته بجرم تبييض الأموال. وفي حال وجود اختلاف بالعناصر الجرمية، يُعاقب كل من أقدم أو حاول الإقدام أو حرّض أو سهّل، أو تدخل أو اشترك في عمليات تبييض أموال، بالحبس من ثلاث إلى سبع سنوات، وبغرامة لا تزيد عن مثلي (ضعفي) المبلغ موضوع عملية التبييض.
وعلى المصارف والمؤسسات المالية وشركات الإيجار التمويلي، والمؤسسات التي تصدر وتروج بطاقات الإيفاء أو الائتمان، والمؤسسات التي تتعاطى التحاويل النقدية إلكترونيًا، ومؤسسات الصرافة، والشركات التي تتعاطى الوساطة المالية، وهيئات الاستثمار الجماعي، وأية مؤسسات تخضع لترخيص أو لرقابة مصرف لبنان، التقيد بالنصوص التنظيمية التي يصدرها مصرف لبنان لغايات تطبيق أحكام هذا القانون.
كما يُطلب من المؤسسات غير الخاضعة لقانون سرية المصارف الصادر بتاريخ 3/9/1956، سيما شركات التأمين، ونوادي القمار، وتجار ووسطاء العقارات، وتجار السلع ذات القيمة المرتفعة (حُليّ، أحجار كريمة، ذهب، تحف فنية، آثار قديمة)، مسك سجلات بالعمليات التي تفوق قيمتها مبلغًا تحدده هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، المنشأة بموجب المادة السادسة من هذا القانون، ويتوجب عليهم التقيد بالموجبات المنصوص عليها في المادة الرابعة وبالنصوص التنظيمية وبالتوصيات التي تصدر عن "الهيئة" لغايات تطبيق أحكام هذا القانون".
التيني: من الصعب معرفة مصدر أموال تجارة اللوحات
تشرح المحامية الدكتورة جوديت التيني لـ"ليبانون ديبايت" أن "تجارة اللوحات الفنية والتحف النادرة من الوسائل التي يمكن استغلالها في عمليات تبييض الأموال، لما تتميّز به من صعوبة في تتبّع مصدر الأموال المستخدمة فيها وإمكانية المبالغة في تقييمها"، موضحة أن "القانون اللبناني رقم 44 تاريخ 24/11/2015، وهو قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، هو من القوانين المتقدمة والرائدة، لأنه يوفر إطارًا قانونيًا شاملًا لمكافحة جرائم تبييض الأموال".
وتشير إلى أن "ميزته أنه لا يحصر الجرائم الأصلية التي يمكن أن تشكّل مصدرًا للأموال غير المشروعة، بل يذكرها على سبيل المثال، ما يسمح له بتغطية مروحة واسعة من الأنشطة والأفعال، كوسيلة لإخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع للأموال".
وتختم: "المطلوب اليوم، كما في السابق، هو التطبيق الفعلي والحازم لهذا القانون، بما يضمن ملاحقة مرتكبي جرائم تبييض الأموال وتجفيف منابعه".