أولًا – الارتكاز على الشرعية الدستورية والرمزية العسكرية
الرئيس عون لم يفتتح خطابه بعبارات بروتوكولية، بل بدأ من جذوره العسكرية، مستعيدًا قسمه الأول كضابط قبل أربعة عقود، ثم قسمه الثاني كرئيس للجمهورية قبل أشهر، ليربط بينهما بخيط الوفاء لرفاق السلاح والوطن.
هذا التذكير ليس تفصيلاً، بل هو تأكيد أن التجربة العسكرية شكلت الأساس الذي يبني عليه قراراته السياسية والدستورية، كما أن استحضاره الشهداء، جرحى الجيش، وقلق الأهالي وصلوات الأمهات، جاء ليؤكد أن العلاقة بين القيادة السياسية والعسكرية ليست علاقة سلطة وإدارة، بل شراكة دم وتضحية، وأنه كرئيس يرى نفسه حاميًا لإرث هؤلاء الشهداء في الذاكرة والوجدان، ورافضًا أن يُتركوا للمساومات أو النسيان.
ثانيًا – الجيش كأعلى سلطة إجماع وطني
في بلد يعج بالانقسامات، شدّد الرئيس على أن الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي تحظى بإجماع اللبنانيين، وأنه لم ينهر رغم الانهيار الاقتصادي الشامل.
هذه النقطة تعكس مخزون الثقة الشعبي بالجيش، وهو ما لم يعد متوفرًا لأي مؤسسة أخرى في الدولة.
الرئيس ذهب أبعد من الإشادة، فذكّر بأن الجيش صمد في وجه الفساد والضيق، ولم يستسلم أمام محاولات الاختراق، ولم يجد الأعداء فيه خائنًا، هذه شهادة سياسية وأخلاقية تمنح الجيش تفويضًا شعبيًا مستمرًا، وتضعه في موقع الدرع الأخير للوحدة الوطنية.
ثالثًا – الحسم في قضية حصرية السلاح
للمرة الأولى بهذا الوضوح، يضع رئيس الجمهورية بند حصر السلاح بيد الجيش والقوى الأمنية في صدر أولوياته، مشددًا على وجوب تطبيقه "اليوم قبل الغد".
هذه الرسالة تمثل انتقالًا من الخطاب الضمني إلى الموقف العلني، وتضع القوى السياسية أمام مسؤولية دعم الجيش كمؤسسة دفاعية وحيدة، لا كشريك بين شركاء في القوة المسلحة. الرئيس ربط ذلك باستعادة ثقة العالم بالدولة، معتبرًا أن قدرة الجيش على حماية الحدود في وجه الاعتداءات الإسرائيلية والإرهاب، لن تكتمل ما دام السلاح موزعًا خارج إطار المؤسسات الشرعية.
رابعًا – تسمية المعتدي ووضع خريطة طريق للسلام
من النقاط الجوهرية في الخطاب تسمية إسرائيل كمعتدٍ صريح، وتوثيق انتهاكاتها منذ وقف إطلاق النار في تشرين الثاني 2024: آلاف الخروقات، مئات الضحايا، منع العودة وإعادة الإعمار، ورفض إطلاق الأسرى. لكن الجديد أن الرئيس لم يكتفِ بالإدانة، بل قدّم خريطة طريق تفاوضية مفصلة، جرى إعدادها بالتنسيق الكامل مع رئيس الحكومة نواف سلام ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، تضمنت:
- وقف شامل للأعمال العدائية في الجو والبر والبحر. انسحاب إسرائيلي كامل وإطلاق الأسرى.
- نزع سلاح جميع القوى المسلحة، بما فيها حزب الله، وتسليمه للجيش. ت
-أمين دعم مالي سنوي بمليار دولار لعشر سنوات للمؤسسة العسكرية والقوى الأمنية.
-مؤتمر دولي لإعادة الإعمار في الخريف المقبل.
- ترسيم وتثبيت الحدود البرية والبحرية مع سوريا وإسرائيل بدعم أميركي – فرنسي – سعودي – أممي.
-حلّ ملف النزوح السوري.
-مكافحة التهريب والمخدرات، وتعزيز البدائل الاقتصادية.
هذه البنود ليست شعارات سياسية، بل برنامج عملي يربط الأمن بالاقتصاد والسيادة بالإعمار.
خامسًا – مصارحة الداخل والخارج
الخطاب حمل جرأة في مخاطبة الداخل، خاصة جمهور المقاومة وبيئتها، داعيًا إلى الرهان على الدولة وحدها، وعدم ترك التضحيات تُستنزف في حروب بلا أفق.
هذا الموقف لا يهدف إلى التصادم، بل إلى إعادة لمّ الشمل الوطني تحت مظلة الدولة والجيش، في الوقت نفسه، كانت الرسالة للخارج واضحة: لبنان يريد شراكة دولية وعربية في حماية حدوده، لا وصاية أو تدخل، ويريد استقرارًا يحفظ سيادته ويعيد ثقة العالم بمؤسساته.
سادسًا – برنامج إصلاحي متكامل
الرئيس استغل المناسبة ليقدّم جردة حساب حكومية، مبرزًا ملفات الإصلاح في القضاء، الأمن، الإعمار، الاقتصاد، والإدارة، بما فيها التشكيلات القضائية، ضبط الأمن وحصر السلاح، ورش الإعمار، حماية حقوق المودعين، إعادة هيكلة الإدارة، والانتخابات.
هذا الربط بين الملفات السيادية والإصلاحية يعكس رؤية متكاملة: جيش قوي في دولة قوية، وليس مؤسسة أمنية في دولة ضعيفة.
سابعًا - التوقيت السياسي الحساس
إلقاء هذا الخطاب في عيد الجيش، وفي ظل تصعيد إسرائيلي، وتحولات إقليمية، واستحقاقات دستورية، يؤشر إلى أن الرئيس أراد تثبيت الجيش كمرجعية وطنية قبل الدخول في أي تسويات.
الخطاب جاء في لحظة يكون فيها إما بناء الدولة أو تكريس الانهيار، ما يجعله إعلان موقف لا يحتمل التأجيل. خطاب الرئيس جوزيف عون في عيد الجيش كان نداءً وطنيًا جامعًا، ومشروعًا واضح المعالم لبناء دولة السيادة والقانون، تحت راية الجيش الحصري السلاح.
هو خطاب أراد به أن يحسم الجدل حول المرجعية الدفاعية للبنان، وأن يضع القوى السياسية أمام مسؤولياتها التاريخية، وأن يفتح باب الأمل أمام اللبنانيين في لحظة يأس جماعي.
لقد كان خطابًا يمزج بين الحزم والواقعية، وبين الإصرار على الثوابت والانفتاح على الحلول، وفي زمن الأزمات الكبرى، تصبح مثل هذه المواقف علامات فارقة في مسار الدول والشعوب.
اليوم، اللبنانيون، وعلى رأسهم حزب الله، أمام مسؤولية وطنية تاريخية، إذ يرسم خطاب الحسم الذي ألقاه الرئيس العماد الرئيس جوزيف عون خطًا فاصلًا بين مرحلتين بالغتي الحساسية: مرحلة تحلل الدولة ومرحلة بناء الدولة.
إن السير في البنود التي حددها الرئيس جوزيف عون يشكّل مفصلًا أساسيًا في تأسيس دولة القانون والإصلاح التي ينشدها جميع اللبنانيين منذ زمن. هذه فرصة لا ينبغي لأحد أن يفوّتها، بل علينا جميعًا استغلالها أفضل استغلال، لننطلق، ولأول مرة منذ اتفاق الطائف، في مسار جدي لبناء الدولة التي يحلم بها اللبنانيون.
