في زمنٍ كانت فيه الدراما اللبنانية تفتّش عن نبضها، كان شكري أنيس فاخوري هو القلب.
كاتبٌ، أديبٌ، أكاديمي ومفكّر، استطاع أن يجعل من النصّ حكايةً نابضة، ومن الحكاية مرآةً لوطنٍ عاشه بوجدان المثقّف، وكتب تفاصيله برؤية المبدع الحالم… والواعي لحدّ الوجع.
تكريم جامعة الكفاءات لعميد كليّة الفنون عندها ليس حدثاً عابراً، بل لحظة ثقافية مضيئة في بلدٍ نادراً ما يُنصف مبدعيه.
حين أطلقت الجامعة اسمه على قسم الإذاعة والتلفزيون في كلية الفنون، إنما كرّمت مرحلةً بأكملها من عمر الفن اللبناني، مرحلة حملت توقيعه، وامتدّت أثراً وتحوّلاً وتجديداً. هو اعتراف لمسيرة صنعت الذاكرة، وكتبت لبنان كما يجب أن يُكتَب.
الحديث عن شكري لا يُختصر بصفة كاتب، ولا يُختزل بعدد أعمال، بل هو من أولئك القلائل الذين إذا ذُكروا، حضر جيلٌ بكامله، وحقبةٌ فنيةٌ كاملة، تحوّلت فيها الدراما من الهامش إلى المركز، إلى الحرفية والتجديد. هو المعلّم في هذا الكار، فليس كل من كتب أو أخرج أو أنتج يُدعى “صانع دراما”.
صانع الدراما هو من كانت أعماله رافعةً حقيقية للفن، منقذةً له في لحظات الانحدار، ومؤسسةً لهوية ثقافية قادرة على البقاء رغم تبدلات السوق وتحديات المرحلة. وشكري أنيس فاخوري كان كذلك، بل أكثر.
في مطلع التسعينيات، حين خرج لبنان من ركام الحرب، ودخل مرحلة جديدة بعد اتفاق الطائف، كانت الدراما اللبنانية بأمسّ الحاجة إلى انطلاقة تعيد لها وهجها.
جاء شكري وفي يده مشروع متكامل، ليس فقط في النص بل في الرؤية، في البناء، وفي إعادة تشكيل الحسّ الدرامي اللبناني بما يليق به.
فكانت “العاصفة تهبّ مرتين”، ثم “نساء في العاصفة”… لا كنجاحين منفصلين، بل كنقطة تحوّل.
فالمرحلة التي سبقت شكري، ليست كالمرحلة معه.
هو لم يُكمل ما قبله فحسب، بل غيّر، طوّر، رسّخ، وثبّت دعائم جديدة للكتابة الدرامية اللبنانية، وأعاد للمشاهد ثقته بشاشته.
أعمال شكري شكّلت تحوّلًا بنيوياً في الصناعة.
أعطى من موهبته لغيره بسخاء… ففتح الأبواب أمام عشرات من الوجوه والمواهب.
لم يكن محيطه ضيّقاً، بل كان مشغلاً دائماً لصناعة الإبداع، امتدّ خيره إلى الممثلين والكتّاب والمخرجين، بل حتى المنتجين الذين تعاونوا معه، وإلى شاشاتٍ لبنانية شكّلت أعماله ركيزة في دورتها البرامجية، وفي حضورها لدى المشاهد اللبناني والعربي على السواء.
لن أعدّد الأسماء، فالأوفياء يعبّرون عن امتنانهم دون خجل، كما فعلت برُقي الكاتبة كلوديا مرشليان، والمخرجة كارولين ميلان خلال تكريمه، بكل صدق واحترام.
وأنا أيضاً، أعتزّ أنني كنت من المتعاونين مع شكري في عدد من الأعمال التي أثّرت في مسيرة شركتي Online Production، وفي المشهد الدرامي عموماً ، أبرزها “العائدة” بجزئيه، حيث قدّم شكري قصةً تمشي على الحافة بين الألم والأمل، كما يجيد دائماً أن يفعل. قصة لم تكن فقط درامية، بل إنسانية، اجتماعية، محفورة في الذاكرة.
ولا زلت أتشرف أن أملك في جعبتي نصاً استثنائياً من توقيعه، هو “غبطته والشيخ”، مسلسل يؤرّخ لمرحلة تمتد من ما قبل الاستقلال حتى بداية الحرب اللبنانية. نصٌّ أؤمن بأنه ليس مجرد دراما، بل وثيقة وطنية، وسردية هادئة لعاصفة تاريخية.
أعمل بجهد منذ سنوات لإنتاجه، لأنني أعلم أي وقع سيتركه، لا فقط في السوق، بل في النفس اللبنانية، في الوجدان الجماعي، في ذاكرتنا التي علينا أن نرويها نحن، قبل أن يكتبها سوانا.
ولأن الحديث اليوم هو عن شكري، اسمحوا لي أن أقول، بكل محبة وصدق:
نعم، هناك كتّاب كبار في لبنان، لعبوا أدواراً فعالة في صناعة الدراما اللبنانية، وأكنّ لهم كل احترام وتقدير، لكن لا أحد أنكر أن مع شكري أنيس فاخوري بدأ زمنٌ جديد، زمنٌ للكتابة التي تحكينا، وتروي ألمنا، وتعيد للمفردة اللبنانية حضورها، وتعيد للدراما اللبنانية روحها.
وختاماً، في بلدٍ أنهك مبدعيه، وقلّما احتفى بهم، آن الأوان أن نكرّم من يجب أن نكرّمهم.
لذلك، وبكل احترام ومحبة، أوجّه نداءً إلى فخامة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، أن يُكرّم الكاتب والمفكّر والأكاديمي شكري أنيس فاخوري ويمنحه وساماً يليق بمسيرته.
ليس فقط لأنه كتب، بل لأنه كتبنا جميعاً، بلغة القلب، ومنزلة الفكر.
لأنه ترك فينا أثراً، وحمل الدراما اللبنانية في أصعب المراحل، فصانها، وطوّرها، وكرّسها.
فإن لم نُكرّم شكري، وأمثاله من أصحاب الأثر الحقيقي… فمن ترانا نكرّم؟