اقليمي ودولي

الجزيرة
الجمعة 08 آب 2025 - 08:14 الجزيرة
الجزيرة

غزة… ورطة إسرائيلية تهز الإرث الأخلاقي الغربي

غزة… ورطة إسرائيلية تهز الإرث الأخلاقي الغربي

أحرجت صور المجاعة الخارجة من غزة العالم الغربي وهزّت ضميره، فيما دفع ذلك الموفد الأممي مارتن ويتكوف إلى زيارة القطاع ليعلن من هناك أنه «لا توجد مجاعة». لكن رسالته، كما يرى منتقدوه، لم تحمل سوى تبديد ما تبقى من رصيد بلاده الأخلاقي، وهو رصيد بالكاد يُرى بالعين المجردة.


قبل ربع قرن، أكدت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت أن العالم لا يمكنه الاستغناء عن الولايات المتحدة، باعتبارها حامية النظام العالمي القائم على القواعد. لكن هذه الدولة التي خاضت نحو 400 حرب خارج حدودها، وتملك 800 قاعدة عسكرية حول العالم، ليست عضواً في محكمة العدل الدولية، ولا تعترف بالمحكمة الجنائية الدولية، وتتجاهل أي هيئة قانونية دولية، وهي اليوم تشارك مع إسرائيل في واحدة من أبشع المذابح التي شهدها التاريخ المعاصر، بل وتطارد القضاة الذين يجرؤون على النظر في ملفاتها.


حتى اللحظة، لا توجد صور جوية كاملة توثق الجرائم في غزة، فيما تستمر وسائل الإعلام الأوروبية في نشر أعداد الضحايا مع الإشارة إلى أنها «وفقاً للسلطات الطبية التابعة لحماس»، وكأن المجاعة أقدر على تحريك الضمير البيروقراطي الغربي من صور الدمار والقتل.


في هذا السياق، نشرت صحيفة «تاتس» الألمانية تقريراً بحثياً مطولاً حول توصيف ما يجري في غزة: هل هو إبادة جماعية (Genocide) أم تطهير عرقي (Ethnic cleansing)؟ الجدل، بطابعه البيروقراطي، استحضر هيروشيما وناغازاكي، حيث يرى بعض القانونيين أنه لا يمكن وصف ما جرى هناك بالإبادة الجماعية لغياب «النية» المعلنة، رغم فناء السكان بالكامل.


المصطلح ذاته — «الإبادة البشرية» — نحته عام 1944 المحامي اليهودي البولندي رافئيل ليمكين، واضعاً «النية» في قلب التعريف: أي تدمير جماعة بشرية كلياً أو جزئياً على أساس قومي أو إثني أو ديني. ومنذ اعتماد اتفاقية الأمم المتحدة عام 1948، لم تُدن أي دولة بجريمة الإبادة الجماعية، حتى في حالات رواندا (1994) والبوسنة (1995) التي أدين فيها أفراد وجهات غير حكومية.


بالنسبة للغرب، تبقى إدانة إسرائيل بهذه الجريمة سابقة خطيرة، إذ ستصبح أول دولة تُنشأ نتيجة إبادة جماعية، وتُدان بارتكاب الفعل نفسه. لكن تقارير منظمات إسرائيلية، بينها «بتسيلم»، وضعت ما يجري في غزة في خانة الإبادة، وهو ما وصفته رئيستها يولي نوفاك بأنه «أمر لم يخطر ببالنا أننا سنكتبه يوماً».


على الجانب الآخر، يبتز الإسرائيليون حلفاءهم بماضيهم. وقد كشف الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه حين نصح نتنياهو بعدم تدمير المدن الفلسطينية، ذكّره الأخير بما فعلته واشنطن في اليابان وألمانيا. وهو ما فُسر بأنه إقرار مبكر بنية جعل غزة أرضاً غير صالحة للحياة، في تقاطع واضح بين الإبادة والتطهير العرقي.


التاريخ الاستعماري الأوروبي، بما فيه الإبادة الألمانية لقبائل الهيريرو في ناميبيا (1904-1908)، يظهر أن الاعترافات — حين تأتي — تكون منقوصة ومتأخرة، وتتجنب المسؤولية القانونية. وبالنسبة لكثير من المفكرين اليهود، فإن الاعتراف بأي إبادة أخرى يهدد «تفرد الهولوكوست» بوصفه الحدث الأخلاقي المركزي للحضارة الغربية المعاصرة.


لكن الحرب على غزة قلبت المعادلة؛ إذ باتت إسرائيل، التي طالما جعلت الهولوكوست حصناً لمكانتها الأخلاقية، تواجه اتهامات جدية بتقويض جماعة بشرية كاملة. وصار الإعلام الغربي يصفها بـ«المنبوذ» (Pariah)، في عزلة ليست سياسية فقط، بل أخلاقية وتاريخية.


وفق الروائي الإسرائيلي ديفيد غروسمان، قادت القوة المطلقة إسرائيل إلى البطش، وأخذها البطش إلى الإبادة الجماعية، ومع سيطرة اليمين الديني المتشدد، أصبحت أمام ورطة وجودية غير مسبوقة. ويؤكد شلومو بن عامي أن الدولة العبرية لم تشهد انهياراً لمكانتها الدولية كما يحدث الآن، ليس في الجنوب العالمي فقط، بل في عموم العالم.


الأخطر أن استطلاعات الرأي تكشف تحولات أيديولوجية عميقة، إذ يصنّف 64% من الشباب الإسرائيلي أنفسهم في خانة «اليمين»، في مفارقة مع الاتجاهات الليبرالية الأكثر انفتاحاً لدى الشباب في دول الغرب.


هذا المشهد المعقد يضع الليبرالية الغربية أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما دعم نظام دولي قائم على القواعد ومحاسبة إسرائيل، أو تعديل القواعد لتلائم حلمها التوراتي. وفي الحالتين، تتعمق أزمة إسرائيل، وتجر معها حلفاءها إلى ورطتها الأخلاقية والتاريخية.


تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة