"ليبانون ديبايت"
كشفت إحدى نسخ التقرير الذي أجراه المدقق الجنائي المعيّن في بنك الاعتماد المصرفي (CreditBank) ميشال أبو جودة، الذي كان المستند الأساسي لتحريك الملف القضائي، عن عمليات سرقة ممنهجة وخطيرة لأموال المودعين وللأموال المصرفية ارتكبها رجل الأعمال م.ح، الذي استحصل على مبالغ تجاوزت الـ39 مليون دولار خلال شهر واحد فقط، مستغلاً التعميم 151 الصادر عن مصرف لبنان، دون أن يستعمل قرشاً واحداً من أمواله.
ففي أواخر حزيران 2020، قام أخطبوط القطاع المصرفي م.ح باستغلال علاقته مع مصرف لبنان لتأمين حصة إضافية كبيرة من الليرات اللبنانية لمصرف CreditBank الذي طمع في الاستفادة أكثر من غيره من المصارف من التعميم رقم 151، وبالمقابل قام CreditBank بإقراض شركة M.N. Holding (المملوكة من زوجة م.ح، ن.س) مبلغ 14.5 مليار ليرة لبنانية. قام م.ح بتحويل هذا المبلغ فوراً إلى شركة Leadlink Holding SAL، وهي شركة ضمن مجموعة م.ح نفسها وداخل المصرف ذاته، ثم قام بتحويل كامل المبلغ إلى الدولار على سعر الصرف 1,500 ليرة، علماً أن التعميم 151 كان قد حدد سعر الصرف بـ3,900 ليرة وكان السعر في السوق السوداء قد لامس 8,000 ليرة، وبهذه الطريقة استحصل م.ح على نحو 9.5 ملايين دولار مقابل مبلغ الـ14.5 مليار الذي استدانه من CreditBank ومن دون أن يضع أي قرش من جيبه الخاص، علماً أنّ هذه العملية ما كانت لتتم لولا تواطؤ إدارة المصرف ودوائر الرقابة في مصرف لبنان، إذ إن المصارف كانت قد توقفت عن تحويل الحسابات من الليرة إلى الدولار إلا ضمن سقف التعميم 151.
من أصل هذا المبلغ، حوّل م.ح 5 ملايين دولار إلى شركة (Nabey 20 SAL)، فيما بقي مبلغ 4.5 مليون دولار في حساب Leadlink Holding، وهنا قام م.ح بتحويل هذا المبلغ إلى الليرة اللبنانية وفق سعر الصرف المحدد في التعميم 151 (3,900 ل.ل./$) ثم أعاد تحويل المبلغ الناتج إلى الدولار مجدداً على سعر الـ1,500 ليرة محققاً بذلك مبلغاً وقدره 11.54 مليون دولار في ضربة واحدة. بعد ذلك، جرى تحويل أجزاء من المبلغ الناتج إلى حسابات في مصارف أخرى، منها بنك لبنان والخليج وSGBL، لكسر الرابط المباشر بين المصدر والمستفيد النهائي.
يُظهر التقرير أنّ هذه الدورة تكرّرت مراراً خلال تموز 2020، وفق الآلية نفسها ليتمكن م.ح من الحصول على مبلغ إجمالي بلغ حوالي 40 مليون دولار، انطلاقاً من مبلغ 14.5 مليار ليرة لبنانية استدانه من CreditBank. وبعد إتمام العملية استعمل م.ح حوالي 3.5 مليون دولار من ناتج العملية وحولها على أساس التعميم 151 على سعر 3,900 ليرة وأعاد المبلغ المستدان (14.5 مليار ليرة) إلى CreditBank واحتفظ بالأرباح.
يُذكر هنا أن التعميم 151 كان قد حدّد سقف السحب أو التحويل لكل حساب بنحو 3,000 دولار شهرياً على سعر 3,900 ليرة للدولار، بهدف تمكين المودعين من الوصول إلى جزء من أموالهم، في حين استحصل م.ح وحده على حصة 13,500 مودع. وفي هذا الوقت كانت الشبكة الأوسع لم.ح المعروفة داخلياً باسم special group MH مستمرة في عملياتها اليومية للاستفادة من منصة صيرفة عبر استعمال حوالي 70 حساباً مصرفياً، بالإضافة إلى إجراء التحويلات المشبوهة المبنية على عقود اقتراض موقعة بين زوجة م.ح و(ش.و) المقرب من مرجعية سياسية كبيرة.
التقرير يورد لائحة بالشركات والأشخاص المتورطين، إضافة إلى أشخاص بينهم: ج.ز، غ.غ، ن.س، م.ح، وآخرين.
الأخطر أنّ نسخة التقرير الجنائي التي اطّلع عليها “ليبانون ديبايت” وثّقت بوضوح هذه العمليات، ولكن هل وصلت هذه النسخة إلى القضاء اللبناني؟ أم أنّ ما قُدّم هو نسخة معدّلة لإخفاء تورّط م.ح؟ وإذا كانت هذه النسخة مختلفة عن النسخة المقدمة للقضاء، فمن أخفى النسخة الأساسية داخل مصرف لبنان؟ وإذا كانت هذه النسخة قد وصلت إلى القضاء، فلماذا أغمض القاضي بلال حلاوي عما ورد فيها؟ وأين هو التفتيش القضائي من كل ما حصل؟ لاسيما أنه بات على علم بأن القاضي حلاوي قد استعجل في إصدار القرار الظني خلال العطلة القضائية قبل استلام القاضية رولا عثمان لمنصبها كقاضي تحقيق أول في بيروت.
وتشدّد معطيات “ليبانون ديبايت” على ضرورة التحقيق في دور المدير المؤقت فادي جبران، إذ تشير المعلومات إلى أنّه شريك في الجرم إذ كان على بيّنة من هذه المعطيات ولم يتحرك، بل تصرّف كما لو أنّه “الحارس الأمين” لمصالح م.ح وهو عرقل ولا يزال يعرقل أي تسوية مطروحة من قبل الموقوفين في الملف بهدف إبقاء الملف عند حدود هؤلاء الموقوفين. كما تُطرح أسئلة حول رئيس دائرة الامتثال في المصرف أنيس واكيم الذي يعرف، بحكم منصبه، الشاردة والواردة داخل المصرف، ومع ذلك فهو لم يُبلّغ بما كان بحوزته من معلومات إلى القضاء، بل اقتصرت إفادته أمام القاضي حلاوي على الأعمال المزعوم ارتكابها من قبل الموقوفين ولم يجرؤ على الإشارة إلى الأخطبوط الكبير. علامات الاستفهام والشبهات تحوم أيضاً حول المدقق الجنائي نفسه، الذي أظهر القرار الظني أنه أدلى بإفادة تناقض تقريره وتخفي أهم المعلومات الواردة في التقرير.
ويبقى السؤال مطروحاً حول تورط مصارف أخرى، وفي مقدمها بنك لبنان والخليج، حيث ترجّح المعطيات وجود صلات مالية تستدعي المزيد من الاستقصاء، على أن تكشف تحقيقات “ليبانون ديبايت” القادمة المزيد من المستور.
والسؤال الأكبر هو عن الجهة الكبرى التي تمكنت من ضبط الإيقاع داخل مصرف لبنان وداخل CreditBank وداخل قصر العدل، ليبقى الملف ضمن الحدود المرسومة بدقة، ويبقى كبش المحرقة داخل القضبان فيما يتنعّم الأخطبوط بملايين المودعين متنقلاً بين أفخم جزر المتوسط.
إنّ كل ما تنشره “ليبانون ديبايت” من معطيات في هذا الملف هو برسم القاضي كمال نصّار، الذي يتولّى اليوم النظر في ملف CreditBank. و”ليبانون ديبايت” يعلن استعداده لتقديم كل الوثائق التي بحوزته إلى القاضي نصّار، ويؤكّد أنّه لن يستكين حتى الوصول إلى خواتيم هذا الملف. فمع فتح ملف CreditBank على مصراعيه، ستتكشّف تلقائياً ألاعيب مصارف أخرى راكمت ملايين الدولارات على حساب المودعين.