"ليبانون ديبايت"
في أعقاب العدوان الإسرائيلي على الجنوب اللبناني الذي بدأ في تشرين الأول 2023، حاولت الدولة اللبنانية الظهور بمظهر الجهة القادرة على ضبط الفوضى وإعادة إعمار ما دُمِّر. ففي 17 كانون الأول 2024، أصدر مجلس الوزراء القرار رقم (3) الذي يُفترض أن يشكل خارطة طريق واضحة، لعمليات الهدم والإزالة في القرى والبلدات الجنوبية. قرارٌ مفصل يستند إلى نصوص دستورية وقوانين حديثة، مثل قانون الشراء العام رقم 244/2021، ومصحوب بتقارير هندسية وفنية من الاتحاد الهندسي وهيئة الشراء العام.
لكن، ما إن انتقل القرار من الورق إلى الميدان، حتى تكشفت فجوة عميقة بين النص والتنفيذ. فبدل أن يتحول الجنوب إلى ورشة منظّمة لإزالة الردميات وتأهيل البنى التحتية، صار مسرحًا لفوضى بيئية ومالية، وعنوانًا جديدًا للهدر والزبائنية.
القرار: نصوص مثالية على الورق
القرار الحكومي لم يكن عشوائيًا، بل حمل أهدافًا واضحة،تنظيف المناطق المتضررة من الأنقاض بشكل آمن،الحفاظ على البيئة والسلامة العامة،إعادة تأهيل البنى التحتية، ضمان الشفافية في التلزيم والتنفيذ. وقد ذهب القرار أبعد من العموميات، فدفتر الشروط الصادر عنه فصل بدقة اشتراطات بيئية تفرض فرز الردميات ومعالجة المواد الخطرة، وحدد المعدات الواجب توفرها(حفارات، بلدوزرات، شاحنات نقل، صهاريج مياه، مولدات كهربائية…)، كما ألزم المقاولين بتوثيق المواقع، إعداد تقارير يومية، والحصول على موافقات خطية من المالكين.
على الورق، بدا القرار متكاملًا، وكأنه درس في الحوكمة الرشيدة والإدارة الحديثة. لكن الكارثة كانت في التنفيذ.
التنفيذ: تلزيم مقفل ومخالفات بالجملة
أناط القرار التنفيذ بمجلس الجنوب، فقام الأخير بتلزيم الأشغال إلى شركتين حصريًا،شركة المهندس إيلي نعيم معلوف في قضاء بنت جبيل، مؤسسة بيتا للهندسة والمقاولات (BETA) في النبطية، صور، مرجعيون، وأقضية أخرى.
لم تُفتح المنافسة أمام مقاولين آخرين، بل اقتصر الأمر على تلزيم محصور، وهو ما يتعارض مع روح قانون الشراء العام. والأدهى، أن الأسعار التي أُقرّت للتنفيذ تراوحت بين 3,12 و3,61 دولارًا للمتر المكعب الواحد، مع تفاوتات بين الأقضية، بينما ظلّت نوعية التنفيذ هشة ومليئة بالخروق.
المخالفات: من البيئة إلى الرقابة
يمكن تصنيف المخالفات التي رافقت عمليات الهدم والإزالة إلى أربع فئات كبرى:
أولا:الكارثة البيئية:
1-الردميات رُميت عشوائيًا في المشاعات والأماكن العامة.
2-لم يُفرز الركام بين قابل لإعادة التدوير أو خطِر أو صلب.
3- وزارة البيئة غابت تمامًا عن الرقابة، ولم تُبرز أي موافقات أو تقارير بيئية.
4-الأنقاض باتت مصدر تلوث بصري وصحي وتهديدًا للمياه الجوفية.
ثانيا:غياب المعدات الموعودة:
1-الشركات لم تملك الآليات الثقيلة المحددة في دفتر الشروط، فلجأت إلى مقاولين ثانويين.
2-معدات غير ملائمة، بعضها قديم ومتهالك، استخدمت في مواقع حساسة.
3-لا سجلات صيانة، ولا تقارير تثبت مطابقة المعدات لشروط السلامة.
ثالثا :مخالفات في التنفيذ
1-الاكتفاء بتكسير المباني وترك الركام في مكانه.
2-رفض هدم الأبنية المتعددة الطوابق بحجة “صعوبة التنفيذ”.
3-طلبات متكررة لزيادة الأسعار وتعديل العقود.
4-التأخير الفاضح في المهل: فالمهلة الأصلية كانت شهرين، فيما مضى أكثر من ستة أشهر من دون إنجاز يُذكر.
رابعا:فضائح مالية ورقابية
1-صرف مستحقات مالية للشركات من دون تقارير فنية.
2-تمرير الكشوفات عبر مفوض الحكومة في مجلس الجنوب، خلافًا لصلاحياته.
3-غياب كشوفات قياس محايدة للتأكد من حجم الأشغال.
4-تسديد دفعات مالية مقابل أعمال لم تُنفذ أو نُفذت بشكل مخالف.
الآثار: تلوث وهدر ومعاناة
النتائج الميدانية لهذه الفوضى كارثية على أكثر من صعيد، بيئيًا تلوث بصري، انتشار غبار السليكا المؤذي للرئة، تشويه المناظر الطبيعية، وتهديد مباشر للمياه الجوفية. واقتصاديًا هدر للمال العام، تعطيل الاستفادة من قرض البنك الدولي (50 مليون دولار)، ارتفاع الكلفة بسبب الحاجة لإعادة التنفيذ، وحرمان مقاولين آخرين من فرص العمل، واجتماعيًا استمرار معاناة المتضررين وتأخر عودتهم إلى منازلهم، وتآكل الثقة في مؤسسات الدولة.
التذرع للتهرب من المسؤولية
المفارقة أن مجلس الجنوب حاول التنصل من الفوضى، عبر كتب رسمية وجّهها إلى محافظ النبطية ومحافظ جبل لبنان، قال فيها إن المواطنين يقومون بأنفسهم أو عبر متعهدين بإزالة الركام ورميه في المكبات العشوائية، مؤكدًا أن هذه الأشغال لا علاقة للمجلس بها.
لكن الوقائع تكشف عكس ذلك: فالمقاولون الثانويون الذين يعملون لحساب الشركات الملتزمة كانوا هم أنفسهم من يرمي الردميات في الأملاك العامة. فلماذا لم يبرز المجلس تقريرًا واحدًا بموافقة وزارة البيئة على مواقع الردم؟ ولماذا استمر بصرف الأموال للمتعهدين المخالفين؟
ما العمل؟
الوقائع تفرض طرح أسئلة جدية،هل كان الهدف من القرار إعادة الإعمار أم فتح باب جديد للهدر والزبائنية؟
أين دور الرقابة الوزارية، خصوصًا وزارة البيئة ووزارة المالية؟ لماذا غابت الشفافية عن عملية التلزيم، ولماذا حُصرت بشركتين فقط؟
الحلول معروفة:لجنة تحقيق رسمية ومستقلة، ووقف صرف المستحقات حتى تبيان حجم المخالفات، وإلزام الشركات بإزالة الأنقاض وفق الشروط وعلى نفقتها الخاصة، وإشراك المجتمع المدني والإعلام في الرقابة، وإصلاح شامل لآلية عمل مجلس الجنوب.
ما جرى في الجنوب ليس مجرد ثغرات في تنفيذ قرار إداري، بل نموذج صارخ عن كيف تتحول القرارات الحكومية من نصوص مُتقنة إلى فضائح ميدانية عند غياب الرقابة. فالهدم والإزالة، اللذان كانا يفترض أن يشكلا بداية لإعادة الإعمار، تحولا إلى هدم للثقة بين المواطن والدولة.
إن إعادة إعمار الجنوب لا تحتاج فقط إلى أموال ومعدات، بل إلى إرادة سياسية ورقابة صارمة، لأن أي عملية إعمار تُبنى على الفوضى ستُنتج خرابًا جديدًا بدل الأمل.