“ليبانون ديبايت”
في ظلّ الانهيار المصرفي والمالي الذي دمّر ثقة اللبنانيين بمؤسساتهم، يكشف “ليبانون ديبايت” اليوم مستندات وتسجيلات خطيرة تضع القضاء أمام امتحان حاسم. فالقضية لم تعد تتعلق بفضيحة مالية عابرة، بل بمنظومة فساد متكاملة حوّلت المصارف إلى أدوات للنهب المنظّم، تحت أعين مصرف لبنان وبتواطؤ إدارات مصرفية وقضائية.
هذا التحقيق الاستقصائي، المدعوم بتسجيلات صوتية وتقرير تدقيق جنائي، يكشف كيف تحوّل مصرف عريق إلى مسرح لواحدة من أضخم عمليات الاحتيال المالي في تاريخ لبنان، أبطالها رجال أعمال محميون بشبكة مالية–سياسية نافذة.
يضع “ليبانون ديبايت” اليوم بين يدي الرأي العام والقضاء تسجيلاً صوتياً جديداً، هو واحد من مجموعة تسجيلات بحوزتنا، يكشف خفايا وأسرار انهيار Credit Bank، ويُظهر تورط “الأخطبوط المصرفي” محمد حمدون وزوجته ناديا سويد في واحدة من أقذر العمليات المالية التي شهدها لبنان، بتسهيلات مع مصرف لبنان وبتواطؤ من إدارة بنك الاعتماد المصرفي.
وفي التسجيل الذي ننشره، يكشف حمدون عن شبكة علاقاته التي مكنته من نهب أموال مودعي بنك الاعتماد المصرفي، وكيف تمكن من اختراق لجنة الرقابة على المصارف والحصول على معلومات حساسة تتعلق بالسياسات التي كان سيتبعها مصرف لبنان. وهي معلومات سرية بحكم قانون النقد والتسليف ومحمية بالسرية المصرفية، ما يكشف تواطؤ مدراء كبار في مصرف لبنان مع حمدون، كانوا شركاء له في عملية النهب ومستفيدين منها، في مشهد يعكس حجم النفوذ والغطاء الذي تمتّع به.
“تاني شي مبارح كنت عم لحكي أنا ويا، وجبت الداتا من لجنة الرقابة… وضعكون إذا ما بقا في provision… وضعكون بالنسبة للرسمال وللـ provision على long term كثير منيح… لأنو رح يعمل يلي فوق السنة وتحت السنة ويلي بالحساب الجاري 1.89… يعني يلي عندو eurobonds هوّي رح ياكلا… وبكرا بعطيكي الداتا… بس تركيلي ال position خليني أعملا”.
وفي مقطع آخر من التسجيل، يظهر حمدون وهو يعطي أوامره للمديرة العامة للمصرف نايلة زيدان، طالباً منها عدم الاستدانة بالدولار، مؤكداً أنه سيؤمّن لها الدولارات، ومشدداً على عدم بيع الدولار في الفروع إلا لمن يملك في حسابه ما يفوق 25 ألف دولار.
“بس ما بدي تتديني دولار… قوليلي أنا بامنلك شوية دولارات إذا اضطريتي… وقفي البيع تبع الدولار متل ما عم قلك أنا… وقفي البيع تبع الدولار بالفروعة إذا ما في min بالحساب فوق الـ 25 ألف دولار، min”.
أهم ما يكشفه هذا التسجيل أنه يسقط بالكامل مزاعم محمد حمدون وزوجته بأن المصرف تلاعب بحساباتهما دون علمهما، إذ يظهر التسجيل تواصلاً مكثفاً وعلاقة عمل مباشرة بين حمدون والمصرف.
وبالتوازي، ينشر “ليبانون ديبايت” جزءاً من ملخص التدقيق الجنائي الذي أعدّه الخبير ميشال أبو جودة، ويُظهر بوضوح كيف أدار حمدون وزوجته عمليات نهب منظّمة لأموال المودعين، والمبالغ الطائلة التي جناها مستغلاً علاقاته داخل مصرف لبنان وطمع إدارة المصرف.
التدقيق يكشف عن واحدة من أجرأ عمليات استغلال النظام المصرفي اللبناني. عملية بلا أي طابع اقتصادي مشروع، أفضت خلال شهر واحد فقط إلى أرباح صافية تجاوزت 28.8 مليون دولار على حساب المودعين.
القصة بدأت في أواخر حزيران 2020، عندما منح Creditbank تسهیلات على شكل تسهيل مكشوف (overdraft) لشركة M.N. Holding المملوكة من زوجة حمدون، ناديا سويد، بقيمة 14.5 مليار ليرة لبنانية (نحو 3.7 مليون دولار وفق سعر التعميم 151 – 3900 ل.ل للدولار). المبلغ حُوِّل فوراً إلى شركة شقيقة، Leadlink Holding SAL، ضمن المجموعة نفسها، وفي المصرف نفسه.
من هنا بدأت لعبة “المضاربة المزدوجة” على سعر الصرف:
1. التحويل بالسعر الرسمي: المبلغ بالليرة حُوِّل إلى الدولار على السعر الرسمي 1,520 ل.ل للدولار، ما أنتج نحو 9.5 مليون دولار، دون أن يضع حمدون قرشاً واحداً من ماله.
2. إعادة التوزيع: 5 ملايين دولار حُوِّلت لشركة Nabey 20 SAL التابعة أيضاً للمجموعة، فيما بقي الباقي تحت السيطرة لإعادة التوظيف.
3. المضاربة الأولى: 4.5 مليون دولار استُخدمت لإعادة شراء الليرة اللبنانية من السوق الموازية على سعر 3,900 ل.ل للدولار، لتُحقّق كتلة نقدية أكبر بكثير.
4. إعادة التحويل: هذه الكتلة أعيد تحويلها إلى الدولار مجدداً على السعر الرسمي (1,690 ل.ل للدولار بعد التعديل)، فأنتجت 10.38 مليون دولار بصافي ربح 5.88 مليون دولار من دورة واحدة فقط.
5. إخفاء المسارات: الأرباح جرى تدويرها عبر حسابات متعددة ونُقلت بين مصارف عدة مثل LGB وSGBL بهدف طمس أثرها.
هذه العملية لم تكن لمرة واحدة، بل تكررت طوال شهر تموز 2020، بالأرقام التالية:
• 4.5 مليون دولار → ربح 5.88 مليون
• 4.125 مليون دولار → ربح 5.39 مليون
• 5.875 مليون دولار → ربح 7.68 مليون
• 7.55 مليون دولار → ربح 9.87 مليون
في المحصّلة: 28.83 مليون دولار أرباح من عملية لم تتطلب استثماراً حقيقياً أو مخاطرة، بل استغلال فجّ لثغرات النظام المصرفي وازدواجية أسعار الصرف.
لكن الأخطر أنّ هذه الأرباح لم تُضَخّ في الاقتصاد، بل صُرفت على شراء عقارات فاخرة. ففي شهر واحد، اشترى حمدون عبر شركتَي Achrafieh 4748 SAL وDbayeh Marine SAL نحو 23 شقة فاخرة، ثم في تشرين الثاني 2020 اقتنى شقة بقيمة 3.15 مليون يورو في أحد أرقى أحياء باريس باسم زوجته وأولاده كريم، غنوى، روان.
التدقيق يكشف أيضاً أنّ هذه الشبكة، التي عُرفت داخلياً باسم “Special Group”، واصلت نشاطها لاحقاً عبر منصة “صيرفة”، مستخدمة الآلية ذاتها لكن بأدوات مختلفة. ومن أبرز الشركات المشاركة: M.N. Holding، Leadlink Holding SAL، J.E. Holding، Nabey 20 SAL، KZ Waters SAL، Falling Waters SAL، Private International Company SA. أما الأفراد البارزون فهم: محمد حمدون، ناديا سويد، جوزف جرجس زغيب، غريتا إبراهيم غفري، وآخرون من الدائرة الضيقة.
وهنا يصبح السؤال مشروعاً: هل أن التقرير الذي وضعه ميشال أبو جودة، وكلفه مصرف لبنان بإجراء تدقيق جنائي شفاف في حسابات Creditbank، قد وصل إلى القضاء كما هو؟ أم أن ما وصل نسخة مختلفة؟ فإذا كانت النسخة الأساسية هي نفسها التي وصلت إلى القضاء ولم يُدَّعَ على حمدون وزوجته، فهذا تقاعس قضائي فاضح يستوجب تدخل التفتيش القضائي فوراً. أما إذا كانت النسخة مغايرة، فيجب الادعاء على الجهة التي زوّرت التقرير، سواء كان مصرف لبنان أو فادي جبران أو ميشال أبو جودة.
وهنا يبرز اسم فادي جبران، المدير المؤقت للمصرف، الذي يقدم نفسه مدافعاً عن المودعين. لكن أسئلة مشروعة تُطرح: إذا كان جبران فعلاً في موقع حماية المودعين، لماذا لم يُقدَّم أي ادعاء ضد حمدون حتى الآن؟ أم أن مهمته الفعلية هي حماية حمدون من أي ملاحقة؟
كما يبرز أيضاً دور المدقق الجنائي ميشال أبو جودة، الذي سنحت له الفرصة لتقديم تقاريره النهائية أمام القضاء حين تم الاستماع إليه أمام القاضي بلال حلاوي. فلماذا لم يقدم على هذه الخطوة؟
ما تكشفه هذه المستندات والتسجيل الصوتي ليس مجرد عملية احتيال مصرفي، بل منظومة فساد متكاملة تمكّنت من تحويل المصرف إلى أداة لنهب أموال اللبنانيين، تحت أعين القضاء، وفي ظل حماية سياسية وقضائية مشبوهة. القضية اليوم لا تتعلق فقط بمحمد حمدون، بل بما إذا كان القضاء اللبناني قادراً فعلاً على كسر هذا الأخطبوط المالي–السياسي، أم أنّ التلاعب بالتقارير والتستّر على الأدلة سيحوّل هذه الفضيحة إلى جريمة بلا عقاب.
إن كل هذه المعلومات التي ينشرها “ليبانون ديبايت” وصلت إلى مسامع القضاة المعنيين بالملف، وهم يدركون جيداً ما يتابع الإعلام نشره في هذا السياق. والاستمرار في النهج القديم، عبر التستّر على الفاعلين الأساسيين منذ انطلاق التحقيق وحتى صدور القرار الظني، لم يعد جائزاً ولا مقبولاً. المطلوب اليوم فوراً هو التوسع في التحقيق، خصوصاً بعد المستندات والتسجيلات التي دحضت معطيات سابقة وقدمت أدلة دامغة على أن شبكة الفساد المتورطة في نهب المصرف لا تزال ناشطة.
وعليه، فإن أي محاولة لتجزئة الملف أو الاستمرار في المسار القديم عبر تصديق القرار الظني، ستكون بمثابة محاولة مكشوفة لحماية محمد حمدون وزوجته وباقي المتورطين النافذين، بعيداً عن أي مسار قضائي شفاف. المطلوب فوراً هو التوسع في التحقيق على ضوء هذه الأدلة، التي تثبت أن الرأس المدبر لهذه العصابة هو محمد حمدون. إن الإبقاء على الملف بشكله الحالي والإيحاء بأن محضراً إلحاقياً سيعاد إلى النيابة العامة التمييزية ليس سوى تمييع للملف وإضاعة للوقت من أجل حماية المستفيدين. وهذا ما يؤكد الشبهات حول تواطؤ قضائي أوصل الملف إلى ما وصل إليه من طمس للحقيقة، وحوّل قاعات العدالة إلى غطاء يحمي المتفلتين.


