في الوقت الذي تغرق فيه الأمم المتحدة في أزمة مالية خانقة، ومع نية الولايات المتحدة تقليص جزء كبير من دعمها المالي السخي للمنظمة، تتحرك دول مثل قطر والصين لنقل مؤسسات ووكالات أممية إلى أراضيها، بل وحتى مقر المنظمة المركزي نفسه.
الحكام في قطر وضعوا هدفاً جديداً يسعون لتحقيقه باستخدام مليارات الدولارات المتراكمة في خزائنهم. هذا الهدف ما زال سرياً، لكنه طموح وفريد من نوعه مقارنة باستثمارات قطر المالية الهائلة في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى. الطموح القطري هو نقل المقر الرئيسي للأمم المتحدة من نيويورك إلى الدوحة. قد يبدو الأمر مبالغاً فيه، لكن الدوحة لا ترى في ذلك عائقاً. الحديث لا يجري علناً، لكن في أحاديث خاصة بين دبلوماسيين مخضرمين يُشار إلى الطموح القطري بجدية وليس على سبيل المزاح.
صحيفة "نيويورك تايمز" ذكرت مؤخراً أنّ قطر أرسلت وفداً كبيراً من الدبلوماسيين إلى جنيف، حيث عرضوا نقل بعض وكالات الأمم المتحدة إلى الدوحة، بينها المكتب الرئيسي لمنظمة العمل الدولية. الدوحة تدرك جيداً واقع المنظمة الأممية التي يغفل كثير من أعضائها أو يتجاهلون أزمتها المالية العميقة. خلال المناقشات العامة في الجلسة الافتتاحية للجمعية العامة السنوية، تحدث ممثلو 193 دولة عضو، لكن أحداً لم يأت على ذكر الضائقة المالية التي تهدد بقاء المنظمة.
الأزمة تفاقمت مع قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب تقليص مساهمة بلاده في ميزانية الأمم المتحدة، بعدما أمر وزارة الخارجية بمراجعة "الفائدة التي تجنيها أميركا من التمويل الضخم المخصص للمنظمة". الولايات المتحدة تغطي 22% من ميزانية الأمم المتحدة السنوية البالغة 3.72 مليار دولار، إضافة إلى مليارات أخرى لبرامج خاصة مثل قوات حفظ السلام. كما انسحبت واشنطن في عهد ترامب من مجلس حقوق الإنسان في جنيف، ومن منظمة الصحة العالمية، ومن منظمة العمل الدولية.
مسؤولون كبار في الأمانة العامة للأمم المتحدة ودبلوماسيون بارزون أكدوا أنّ ترامب يعتزم تقليصاً عميقاً وواسعاً في مساهمة بلاده. أحد نواب رؤساء بعثات الدول الغربية قال: "ترامب معروف بازدرائه للمؤسسات الدولية، وخاصة الأمم المتحدة. أنا قلق جداً من حجم التقليص الأميركي". ووفق "نيويورك تايمز"، "الدول السلطوية تسارع لملء الفراغ الذي تتركه انسحابات ترامب"، مشيراً إلى دول معروفة بانتهاكاتها لحقوق الإنسان.
الصحيفة لمّحت إلى مبادرة قطر السرية لنقل المقر الأممي إلى الدوحة، وأشارت أيضاً إلى أنّ الصين تستغل هذه الانسحابات الأميركية وتعمل خلف الكواليس على نقل مؤسسات ووكالات أممية إلى أراضيها. كما أنّ دولاً مثل إريتريا وفنزويلا ورواندا تسعى علناً لاستضافة وكالات أممية.
الأزمة انعكست على عمل لجان التحقيق الأممية في انتهاكات حقوق الإنسان، إذ توقفت بعض اللجان عن التحقيق بسبب نقص التمويل، فيما طلبت الأمانة العامة إلغاء لجان أخرى بالكامل. واقترح مسؤولون في الأمم المتحدة نقل بعض الوكالات من جنيف ولاهاي إلى مدن أقل كلفة.
في محادثات خاصة، أعرب دبلوماسيون قدامى عن خشيتهم من أنّ سيطرة دول مثل الصين وروسيا وقطر على الوكالات الأممية ستُضعف المنظمة. أحد الدبلوماسيين الغربيين قال: "قطر تنتهك بشكل دائم حقوق العمال الأجانب، ولا تتردد في السعي لنقل المقر الرئيسي للأمم المتحدة إلى الدوحة. تخيّل أن يُنقل مجلس حقوق الإنسان من جنيف إلى بكين، عاصمة دولة تدير معسكرات اعتقال". ووفق التقديرات، فإن بعض لجان الأمم المتحدة في جنيف ستفقد 40% من ميزانياتها بعد خفض التمويل الأميركي.
في إحاطة مغلقة، قال نائب رئيس بعثة غربية إنّ رواندا، التي تتهم حكومتها بدعم متمردين يقاتلون في الكونغو، عرضت استضافة مشروع أممي في عاصمتها. ويؤكد دبلوماسيون مخضرمون في نيويورك أنّ مكانة الأمم المتحدة تدهورت إلى مستوى متدنٍّ، مع تراجع تأثيرها في النزاعات الإقليمية والأزمات العالمية، كما يظهر في الحرب الأوكرانية المستمرة والاعتداءات الروسية المتواصلة.
ومع ذلك، يشير بعض الدبلوماسيين إلى أنّ الأمم المتحدة، رغم ضعفها، كانت فاعلة نسبياً في التحقيق بملفات حقوق الإنسان وتقديم المساعدات الغذائية، وهذان المجالان مهددان اليوم ليس فقط بالتقليص بل بالزوال.
وفي حين تُبدي دول مثل رواندا وإريتريا وفنزويلا اهتماماً باستغلال الأزمة الأممية، لم تُسمع أي مواقف من القوى الغربية الكبرى. فرنسا منشغلة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وبريطانيا وكندا تشاركانها هذا المسعى رغم إدراكهم لضعف فرص تحقيقه عملياً. أما قوى كبرى مثل ألمانيا واليابان والهند والبرازيل فلا تبدي اهتماماً بمستقبل المنظمة إذا مضت واشنطن بخططها.
دبلوماسي غربي بارز قال في ختام حديثه: "من المبالغة القول إنّ الأمم المتحدة مهددة بالانهيار أو الزوال، لكن إذا نفّذت أميركا تقليصاً واسعاً في تمويلها واستمرّت القوى الكبرى في لامبالاتها، ستتحول المنظمة إلى مؤسسة تمثيلية بلا أي تأثير حقيقي".