"ليبانون ديبايت"
في ظلّ الاضطرابات السياسية والاقتصادية المتصاعدة حول العالم، وما تشهده الأسواق من تقلّبات حادّة وتراجع في ثقة المستثمرين بالأنظمة المالية التقليدية، برزت من جديد مسألة الاستثمارات الآمنة كأولوية قصوى للأفراد والمؤسسات على حدّ سواء. ومع تزايد معدلات التضخم وانخفاض القيمة الفعلية للعملات الورقية، يسعى المستثمرون إلى البحث عن أدوات تحافظ على ثرواتهم وتؤمّن لهم حماية من الانهيارات المفاجئة في الأسواق.
وفي هذا السياق، تبرز الملاذات الآمنة مثل الذهب والفضة والعقارات، إلى جانب العملات الرقمية التي باتت تُشكّل اتجاهاً متنامياً في عالم الاستثمار. حول هذا التحوّل المالي العالمي، وأين تكمن الفرص والمخاطر، كان لـ"ليبانون ديبايت" حديث خاص مع الباحث والخبير الاقتصادي الدكتور محمود جباعي، الذي شرح أبعاد هذه الظاهرة واتجاهات المستثمرين في المرحلة المقبلة.
ولفت جباعي في حديثٍ إلى "ليبانون ديبايت" إلى أنّنا نعيش اليوم في ظلّ اضطراباتٍ جيوسياسية عالمية، ويبدو جلياً أنّ المسار المالي والاقتصادي العالمي يشهد تحوّلات كبيرة، إذ تتغيّر المعايير المالية والاستثمارية على نطاق واسع، وتتجه الأنظار نحو بدائل جديدة عن العملات الورقية أو النقدية التقليدية.
وأوضح جباعي أنّ المستثمرين، ولا سيّما كبار المستثمرين حول العالم، بدأوا يتوجّهون نحو أنواع جديدة من الاستثمارات، ويأتي في مقدّمتها الملاذ الآمن المتمثل بالذهب، حيث يشهد هذا المعدن الثمين استثمارات مرتفعة وكبيرة في حجم الطلب عليه، سواء من خلال المصارف العالمية أو عبر الشراء المباشر، مشيراً إلى أنّ الأرقام المسجّلة حالياً تُظهر كميات ضخمة جداً من عمليات شراء الذهب، ما يعكس ثقة متزايدة به كوسيلة لحماية رأس المال في ظلّ حالة عدم اليقين الاقتصادي.
وأضاف أنّ الفضة تسلك الاتجاه ذاته، إذ تُعدّ أيضاً من المعادن التي تشهد اهتماماً متزايداً من قبل المستثمرين.
واعتبر جباعي أنّ هناك مساراً آخر من الاستثمارات يشهد توسعاً ملحوظاً، يتمثّل في العملات الرقمية، التي بدأت تُعتمد تدريجياً كبديل عن الدولار وعن سائر العملات الأخرى، وخصوصاً بعد أن باشرت بعض الدول باستخدامها كوسيلة للتبادل التجاري بدلاً من العملات الورقية، الأمر الذي يفتح المجال أمام بروز عملات رقمية جديدة وزيادة الطلب على تلك الموجودة حالياً.
ولفت إلى أنّ من أبرز هذه العملات البيتكوين، والإيثيريوم (Ethereum)، والريبل (XRP)، والسولانا (Solana)، التي تسعى جاهدةً للسيطرة على حصة متزايدة من السوق العالمي، في ظلّ الطلب الكبير عليها. كما أشار إلى أنّ بعض الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأخرى، تدرس إمكانية اعتماد هذه العملات ضمن احتياطاتها الاستراتيجية، وهو ما من شأنه أن يرفع الطلب عليها إلى مستويات قياسية.
ورأى جباعي أنّ هذه التطورات تجعل العملات الرقمية تبدو كوسيلة جديدة للحفاظ على القوة الشرائية، وربما كبديل عن العملات الورقية التي تتراجع قيمتها بفعل معدلات التضخّم المرتفعة حول العالم، إذ تفقد العملات التقليدية سنوياً ما بين 7 و8% من قيمتها كمتوسط عالمي في ظلّ التضخم، فيما تخسر العملات الوطنية في بعض الدول ما نسبته 20 إلى 25% من قيمتها سنوياً، نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة.
وأضاف: "أنّ هذا الواقع يدفع الأفراد والمستثمرين على حدّ سواء إلى البحث عن ملاذات آمنة تحافظ على قيمة أموالهم، سواء عبر الذهب الذي يبقى الاستثمار الأفضل والأكثر أماناً، أو عبر الفضة التي بدأت تأخذ مكانها في المحافظ الاستثمارية، أو حتى عبر العملات الرقمية التي تشهد توجهاً متزايداً نحوها رغم المخاطر المرتبطة بها".
وقال جباعي: "إنّ نصيحتي الدائمة للناس هي التوجّه نحو الأصول الملموسة مثل الذهب والعقارات والفضة، لأنّها أصول حقيقية تحفظ قيمتها مع الوقت، بخلاف العملات الرقمية التي لا تزال غير مثبتة رسمياً في الدول الكبرى، كالولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والصين، إذ لم يتم اعتمادها بعد كوسيلة تبادل رسمية أو كجزء من الاحتياط الاستراتيجي للدول."
وأضاف: "لذلك، وبرأيي، يبقى الذهب هو الخيار الأفضل والأكثر أماناً، أما من يرغب بالمغامرة وتحقيق أرباح محتملة، فيمكنه الاستثمار في العملات الرقمية، إذ لا شيء يمنع أن ترتفع قيمتها بشكل كبير، ولكن في الوقت نفسه لا شيء يمنع أيضاً أن تنخفض بشكل حاد".
وختم جباعي حديثه بالتشديد على أنّ الاستثمار في الأصول الثابتة كالذهب والفضة والعقارات الملموسة، أو الاستثمارات المباشرة عبر فتح مشاريع استثمارية، يبقى الخيار الأضمن في هذه المرحلة التي يشهد فيها العالم تحوّلات مالية واقتصادية عميقة وغير مستقرة.