عاد اتفاق أضنة إلى الواجهة من جديد، لكن هذه المرة بنسخة يُرجَّح أن تكون أكثر شمولًا وصلاحيات أوسع، في ظل التحوّلات المتسارعة التي تشهدها العلاقة الأمنية بين أنقرة ودمشق. وتشير المؤشرات إلى أن تركيا تدفع باتجاه تفاهم أمني شامل مع دمشق، يهدف إلى إعادة تنظيم الوضع الميداني في شمال شرقي سوريا وجنوبها بما يتماشى مع المصالح التركية، ويُبعد تداعيات الملف السوري المعقّد عن حدودها الشمالية. وهو ما يفسّر تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان حين قال إن "أمن سوريا ليس بمعزل عن أمن تركيا".
وتزامنًا مع تزايد الزيارات الأمنية المتبادلة بين كبار المسؤولين في البلدين، برز التقارب بين دمشق و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) كإحدى نتائج الإشراف التركي على هذا الملف، المتصل بجذور الصراع التاريخي بين أنقرة والأكراد. فبعد تسويات أمنية تركية مع حزب العمال الكوردستاني، يبدو أن أنقرة تدفع باتجاه تحييد الخطر الكردي داخل سوريا إلى الحد الذي تعتبره مقبولًا استراتيجيًا.
يرى المحلل السياسي خالد الفطيم أن أنقرة تسعى إلى بناء حالة استقرار سياسي وأمني طويل الأمد في سوريا، وتواكب عن كثب التطورات الميدانية لمنع خصومها، داخليًا وخارجيًا، من استثمار حالة التجميد العسكري الحالية في ترتيبات سياسية قد تُحدث تغييرات واسعة. ويضيف أن سلسلة اللقاءات الأمنية الأخيرة ناقشت طرق إلزام "قسد" بتسليم سلاحها والاندماج ضمن الجيش السوري تحت راية وزارة الدفاع في دمشق.
ويكشف الفطيم عن تطوّر لافت تم تسجيله خلال اللقاء الذي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع بقائد "قسد" مظلوم عبدي، بحضور المبعوث الأميركي توماس باراك، حيث تمّ تخطيط مسار سياسي أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، وجرى التفاهم على تسليم إنتاج النفط من حقول دير الزور لدمشق مقابل حصة داخلية لـ"قسد"، في خطوة يعتبرها المراقبون بداية اندماج فعلي للقوات الكردية داخل مؤسسات الدولة السورية بدفع مباشر من أنقرة.
ويشير المحلل إلى أن تركيا تلعب دورًا نشطًا ومقبولًا دوليًا في إعادة تأهيل المؤسسات الأمنية والعسكرية السورية، وأن الاجتماعات الأخيرة في أنقرة تطرّقت ليس فقط إلى الملف الكردي في الشمال الشرقي، بل أيضًا إلى الجنوب السوري حيث تسعى إسرائيل إلى فرض واقع ميداني خاص بها وتحويل المنطقة إلى نطاق نفوذ عسكري وأمني.
تركيا – وفق الفطيم – ترفض انضمام قسد إلى الجيش السوري ككتلة موحّدة تحت قيادة مستقلة، وتصرّ على تفكيك بنيتها التنظيمية قبل دمجها، لقطع الطريق أمام أي قرار مستقل قد يهدّد الأمن القومي التركي مستقبلًا.
من جانبه، يعتبر المحلل السياسي السوري سعيد جودة أن المشهد الجاري يتجاوز مجرد تفاهمات ظرفية، ويقترب من صيغة جديدة لاتفاق أضنة 1998 ولكن بصلاحيات أوسع لمصلحة أنقرة، تتضمن إمكانية إنشاء قواعد عسكرية مشتركة بعمق 30 إلى 40 كلم داخل الأراضي السورية، وهو ما يمنح التدخل التركي غطاءً قانونيًا ويُميّزه عن النموذج الإسرائيلي في الجنوب.
ويشير جودة إلى أن تركيا تسعى أيضًا إلى موازنة النفوذ الإسرائيلي في الجنوب السوري عبر دعم دمشق في هذا الملف، مقابل تعاون أوسع في الشمال الشرقي ضد "قسد". وبذلك، تعمل أنقرة على إعادة تشكيل خريطة الانتشار العسكري في سوريا تحت سقف "اتفاق أمني شامل" يعيد تعريف العلاقة بين الدولتين على أساس المصالح الأمنية المباشرة.