لبنان… لبنانات. وحين يُحدثنا أحدهم عن الفيدرالية تقوم القيامة ولا تعود تهدأ. غريبٌ أمرنا وأمرهم. غريبٌ ما نعيشه في لبنان هذا. فعند كل مفصل وحدث وقضية ينقسم اللبنانيون بين “مع” و”ضدّ”. فهذه مياه “تنورين” التي تسقي الأرز مثال حيّ. المسيحيون دافعوا عنها و”الشيعة” سلموا بتلوثها ولم يضعوا علامة استفهام واحدة على الطريقة التي رُوّج بها خبر كاد يقضي على تاريخ شركة و600 عامل فيها. وها هم يطلقون أحكامًا جائرة بحقّ “فروج” يصنعه مسيحيون وينصحون بتناول فروج بلال الشرعي الذي يُباع في برج البراجنة والأوزاعي.
وها هي حملة مقاطعة تناول النيسكافيه لأنها من منتجات “نستله” الداعمة للاحتلال. فيشربها ناس ويقاطعها ناس وهم يُمسكون بأكفهم “آيفون” ويشربون “المالبورو”… وهكذا دواليك. نعيش في بلد واحد بمفهومين للتعاطي مع المسائل التي تتقدّم فجأة لتعود وتختفي فجأة. ويكون من ضرب قد ضرب ومن هرب قد هرب. فهل هذا هو لبنان المنشود على مساحة 10452 كيلومترًا مربعًا؟
آخر “همروجة” عايشناها كانت قصة مياه تنورين التي كادت تتحول ببساطة إلى معركة طائفية. كلامٌ سخيف كثير صدر من أغبياء نظموا النكات ورشقوا المقلب الآخر، الذي يُفترض أن تنورين تدور في رحابه، لا لشيء إلا لأن “الأرز بيشرب تنورين”. قلة قليلة لازمت الصمت لتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود والبقية أخذوا قرارهم: “نشكر الحملة الإعلانية التي فضحت سموم من يدورون في فلك مياه تنورين ولن نشرب منها لأنها لا تشبهنا وسنظل نشرب عزة وكرامة”. فعن أي عزة وكرامة يتحدث هؤلاء؟ هؤلاء يخالون أنهم أولاد العزّ والكرامة والبقية يصنفونهم في خانة العمالة؟ فهل هكذا يُبنى لبنان؟
انتهت - أو تكاد تنتهي - قصة مياه تنورين. وستدور العقارب إلى حين يُفتح ملف آخر وتتقدّم قصة أخرى. فماذا عمّن ما يزال يؤمن بلبنان الواحد؟ وهل نحن نعيش حقًا في لبنان واحد؟ من زمان وزمان نعيش في بلدٍ تسوده الانقسامات الثقافية والاجتماعية والسياسية، لكننا نتكاذب على أنفسنا ونستعير من كتاب الشعر والنثر ما يخدم العيش المشترك. من يقولها يعرف أنه يكذب، ومن يسمعها يعرف أنها كذب. والجميع يتفوهون ويسمعون ويعودون وينشغلون بالمصير وبلبنان الواحد الأحد الوطن النهائي لجميع أبنائه.
طحين “وودن بيكري” فاسد؟ هناك مسيحيون دافعوا وهناك مسلمون - شيعة بالتحديد - ابتسموا وأطلقوا نكاتًا ودعوا إلى تناول خبز “الوفاء”. مواطنة مسيحية مارونية اعترفت أن الكهرباء تحسنت فاعتبر مواطن شيعي اعترافها بمثابة إخبار، مرجّحًا أنها تعيش في كسروان المسيحية. ظنه لم يكن في محله لكنه أبى الاعتراف بأن تغذية الكهرباء تحسنت فقط لأن الوزير ينتمي إلى جماعة أخرى في الوطن. من يلبسن المايوه ويشربن البيرة في نهر الخرخار في عربصاليم يُدنّسن النهر والموقع. الشيعة - أو بعض الشيعة كي لا نعمّم - يرفضون المايوه والبيرة في مناطق محسوبة لهم في لبنان الكبير. غريبٌ. أليس ما يحصل من انقسام ثقافي واجتماعي على المايوه وسواه و”خصوصية مناطقية” على المايوه يجعلنا نعيش في بلادٍ منقسمة، مختلفة، لا في وطن واحد أحد؟ وإذا تحدث أحد عن الفيدرالية قام من يريدون لبنان على شاكلتهم وحدهم ولم يقعدوا.
قبل أن نتحدث عن الفيدرالية فلنتكلم عن اللامركزية. نبت الشعر على الألسن التي تحدثت عن وجوب تطبيق اللامركزية. هو ترداد ببغائي لا يلبث أصحابه أن يعودوا ويغطّوا في نوم عميق، وحين يستيقظون فجأة يتذكرون أن في دستور الطائف بندًا: اللامركزية الإدارية الموسّعة. فلتُطبّق اللامركزية حتى نعرف “القوانين” في كل مركزية ونتحاشى الخلافات. فلنتحدث أقله عن اللامركزية من أجل تحقيق الإنماء المتوازن والحقيقي. فهل هذا كثير؟ أنطوان مسرّة، الدستوري، يقول: “ثمة نوايا سيئة عند البعض تعيق تطبيق اللامركزية وتجعلهم يخلطون بين الفيدرالية واللامركزية والتقسيم”.
في اللامركزية - لمن لا يعرف - إيديولوجيا أو لنقل نظام إداري مهمته تسهيل العمل الإداري وحياة الناس. فليشرب من يشاء تنورين وليأكل من يشاء خبز الوفاء ولا شيء آخر. اللامركزية ليست نظامًا سياسيًا بل تنظيميًا عمليًا وإداريًا على مستوى ممارسة السلطة. هذه هي فلسفتها في العالم. وأكثرية بلاد العالم تطبق أشكالًا من اللامركزية توسّعها أو تضيقها لتتناسب مع الحياة الاجتماعية. ثمة مفاهيم خاطئة في الموضوع. هناك مجتمعات تُقفل على ذاتها بحجة أن اللامركزية تُقوّي الطائفية، بينما من ينظر إلى الجغرافيا اللبنانية يرى أن بعض الطوائف مركّزة فعلاً في مناطق وتتمدد في مناطق أخرى. من يُفكر أن اللامركزية طائفية ينطلق من فكر إيديولوجي لا إداري. وطالما نعيش في إيديولوجيات فستظل السلاسل والأغلال الحديدية في أيدينا وأقدامنا ولن تسمح لنا ببناء وطن.
مشكلتنا كانت وتبقى “النوايا السيئة”. واللامركزية مرجأة حتى إشعار آخر. وهناك من يُصرّ على الإساءة إلى الآخرين و”الانفجار” في وجه أي أحد يتجرأ على الكلام عن لزوم التفكير جديًا بتطبيق - مثلاً - الفيدرالية.
أنطوان نجم، الأستاذ أنطوان، يرى أن الفيدرالية هي الحلّ شبه الوحيد لكن مشكلتنا “أنهم حاربوها من دون أن يفهموها”. الفيدرالية موجودة وقائمة. قال لنا عباس خلف (الاشتراكي الذي لازم كمال جنبلاط طويلًا): “في أيام الحرب أنشأنا في الجبل الإدارة المدنية. كانت فيدرالية بمفهوم هذا الزمان. كان لا بدّ منها بعدما فلتت الأمور. أنشأنا الإدارة المدنية في عاليه وترأستها بالنيابة عن كمال جنبلاط، ونجحنا في منع الرذالات والسرقات”. هذا حصل قبل خمسين عامًا. واليوم هناك من يتكلم ويسهب عن “فزاعة” الفيدرالية.
ها هم اللبنانيون اليوم ينقسمون على تسمية “مدينة كميل شمعون الرياضية”. هناك من طالب بتغيير الاسم وهناك من ردّ: عم تحلموا بتغييره. انقسام آخر. وهناك من يُصرّ على إلغاء اسم رفيق الحريري عن المطار. وهناك من لا يرى أمانًا إلا بإنشاء مطار - أو مطارات أخرى - لعلمه أن مطار العاصمة يستمر في قبضة جماعة. يا له من لبنان. المسيحيون يتناولون العدس - المجدّرة - أيام الجمعة بينما الشيعة يتناولونه حساءً في رمضان. “زمط” اللبنانيون من معركة العدس لكنهم يسقطون في عشرات غيرها.
لا، لسنا نروّج للفيدرالية لكننا نبحث - بين كل ما يحصل عندنا - عن لبنان الوطن. البارحة، أحرقت يافطة تضامنية على طريق المطار مع الجيش اللبناني تحمل عبارة “كلنا معك”. بديلاً، هناك من حلا له استقبال الآتين من مدخل المطار بيافطة “جادة الإمام الخميني”. وهناك من يحلو له جعل مناطق محسوبة عليه طائفيًا مناطق حرب سرمدية. فليكن له ما يشاء. لكن “هذا” نفسه ينفجر غاضبًا، متوترًا، متحدثًا عن الوطنية حين يسمع كلمة فيدرالية. هذا نفسه يصف رئيس الجمهورية اللبنانية الشيخ بشير الجميل بالعميل وحبيب الشرتوني بالبطل.
هناك من يرفضون تناول البيض إلا من عند “حرقوص”. ولا يشترون السلع إلا من سوبرماركت “رمال” و”العاملية”. وهناك من يعتبرون أن الدعارة تتركّز في المعاملتين والنقاء مرتعه حارة حريك. فليفعل هؤلاء - وليظنوا - ما يشاؤون. لكن، هل هذا هو لبنان؟ مياه تنورين أحاطتها تفاصيل كثيرة، وكل دعابة أُطلقت من هنا أو من هناك أخذت القضية يمنة أو يسرة بحسب أهواء مطلقها الطائفية. فيا حرام يا لبنان. والأسوأ، هي نوايا إقفال القضية على “ولا شي”. وكأنها لم تكن إلا في ارتكابات المنقسمين على القضية. بلد.
لا، ليست المشكلة بوجود طوائف بل بذهنية إلغاء الطوائف بعضها البعض في لبنان. لا، ليس لبنان هو المشكلة بل بمحاولة البعض السخرية من مَن يتشاركون العيش بلبنان على قاعدة “إنتَ بتاكل تبولة وأنا باكل فتوش”. وإنتَ بتسهر في “سكاي بار” أما أنا فالسيد السيستاني نهاني عن السهر… أف، يا لبنان. لكن، من قال إن الشيعة لا يسهرون ولا يشربون البيرة ولا يأكلون التبولة ولا يرتدون المايوه؟ هناك شيعة يريدون كل هذا. هؤلاء أنفسهم يرون في الفيدرالية قهرًا لهم وفي مخيلتهم أنها ستجعلهم “منصاعين” حكمًا وحتماً إلى من لا “يشبههم” ولو كان من طائفتهم. هؤلاء يغذّون الجامعة اليسوعية والأنطونية والحكمة. هؤلاء حيارى.
الأمور ليست سهلة أبدًا في لبنان. انتهينا من مياه تنورين. فلنلهُ أيامًا مقبلة بقضية تسمية مدينة كميل نمر شمعون الرياضية. فهناك من يريد إلغاء الاسم ويتمنى لو يستطيع معه إلغاء التاريخ.