هذا الاستنزاف اليومي ليس قدراً، بل جريمة مكتملة العناصر، تقودها منذ سنوات شبكات تستثمر حاجة الناس وغياب الرقابة، وتستفيد من موظفين في مؤسسة المياه بالتنسيق مع أشخاص نافذين وعمّال سوريين يسيطرون على مفاتيح تشغيل المضخات في المحطات. وفي كل يوم، تُنفَّذ عشرات “نقلات المياه” من منشآت الدولة مباشرة نحو الصهاريج، بما يفوق الأربعين نقلة يومياً في بعض المناطق، تُباع للمواطنين بأسعار خيالية، فيما تبقى الأنابيب الرسمية جافة في بيوتهم.
أمام هذا الواقع الخطير، تحرّك القضاء، إذ تقدّم النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي سامي صادر بورقة طلب ادعاء على عدد من المتورطين المسؤولين عن مياه منطقة بحمدون وجوارها، وهم:
رأفت. أ
حسين عبد الله. ح
برنار. و
فادي. خ
نشأت. ب
غسان. م
جناح. أ
سعيد. أ
وكل من يظهره التحقيق.
وجاء الادعاء بجرائم اختلاس المال العام واستثمار الوظيفة وبيع المياه العمومية بصورة غير شرعية، استناداً إلى إحالة النيابة العامة التمييزية ومحاضر التحقيق الأولية، حيث طلب القاضي صادر توقيف الأول والثاني وجاهياً، وتوقيف الثالث غيابياً لتواريه عن الأنظار، مع اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لكشف كامل الشبكة وتحديد المستفيدين.
الخطوة التي اتخذها القاضي صادر ليست مجرد إجراء قضائي عابر، بل رسالة مفصلية في واحدة من أكثر الأزمات التي تخنق الناس يومياً: أزمة الماء. فمن غير المقبول أن يتحوّل حق المواطن الطبيعي إلى سلعة للابتزاز، وأن تتواطأ بعض الأيادي داخل المؤسسات مع شبكات تستنزف جيوب الناس وتحرمهم أساسيات الحياة.
إن حماية المال العام ليست شعاراً بل التزاماً وطنياً، يبدأ من وقف هذا النزيف الذي يُثري قلة على حساب وجع شعب بأكمله. فلبنان الذي يكافح للبقاء لا يمكن أن ينهض في ظل منظومات تستغلّ الدولة ومقدّراتها لنهش آخر ما تبقّى لدى المواطنين. وما قام به القاضي سامي صادر يمثّل خطوة في الاتجاه الصحيح، تعزّز ثقة الناس بأن الدولة لا تزال قادرة على حماية حقوقهم متى وُجد من يتحمّل مسؤولية المواجهة.
اللبنانيون لا يطلبون معجزات، بل يريدون ماءً نظيفاً يصل إلى بيوتهم بلا إذلال، ودولة توقف المتاجرة بحاجاتهم الأساسية. وهذه البداية، مهما كانت صعبة، تحمل أملاً بأن زمن الفوضى في قطاع المياه بدأ يتصدّع. ومن هنا، يبقى السؤال: هل سنشهد قريباً فتح باقي الملفات التي تحوّلت فيها الحقوق إلى امتيازات، والخدمات العامة إلى تجارة سوداء؟