“ليبانون ديبايت”
يحاول وزير الطاقة جو الصدي التذاكي على اللبنانيين لتبرير استمرار وزارته في التعامل مع الشركات الملاحقة قضائيًا بتهم الفساد، مقدّمًا نفسه في إطلالاته الإعلامية الأخيرة كمن “يشرح القانون”، فيما هو في الواقع يُدافع عن فاسدين ملاحقين قضائيًا لتورّطهم في نهب المال العام.
الوزير الذي ظهر في تقريرٍ تلفزيوني على محطةٍ رئيسية حاول عبثًا تلميع صورته، لكنه لم ينجح سوى في تثبيت الانطباع بأنه يستميت في حماية منظومة الفيول الفاسدة، متذرّعًا بتفسيرات قانونية متناقضة ومضلّلة لتبرير استمرار عمل الشركات نفسها التي تخضع للتحقيق القضائي.
بيت القصيد هو دفاع الوزير عن الإنفاق غير المبرَّر في ملف المناقصات الأخيرة لاستبدال النفط الخام العراقي بالفيول أويل، حيث فازت شركة Iplom International بمناقصة جديدة بسعر Premium بلغ 111 دولارًا للطن الواحد، بعدما كانت قد فازت بمناقصات سابقة في حزيران وتموز الماضيين على أساس 60 دولارًا فقط للطن. الفارق يقارب الضعف من دون أي مبرّرٍ مالي أو تقني، ما يفتح باب الشبهات حول طريقة التقييم وشفافية العملية.
لكنّ الفضيحة الأوسع تكمن في أنّ Iplom International S.A. نفسها تخضع لتحقيقٍ قضائي بجرم توريد فيول روسي إلى لبنان بأسعار السوق العالمية، ما حقّق لها أرباحًا تتجاوز 6 ملايين دولار في الناقلة الواحدة. وقد أصدر القضاء قرارًا بالحجز الاحتياطي على كفالاتها المصرفية بقيمة 9 ملايين دولار بانتظار انتهاء التحقيقات. ومع ذلك، سمح الوزير للشركة بالمشاركة مجددًا في المناقصات، ضاربًا عرض الحائط بالقرار القضائي وبمبدأ النزاهة.
والأخطر أنّ الوزير تجاهل نصّ البند السابع من تصريح النزاهة الموقَّع من جميع الشركات المشاركة في المناقصات، والذي ينصّ بوضوح:
“في حال خالفنا هذا التصريح والتعهد، لن نكون مؤهلين للمشاركة في أي صفقة عمومية أياً كان موضوعها، ونقبل سلفاً بأي تدبير استبعادي يُتخذ بحقنا، ونتعهد بعدم الاعتراض عليه.”
وهنا يسقط تبرير وزير الطاقة بأنّ عدم إقصاء الشركات المخالفة سببه الخشية من الاعتراض ونتائجه المالية، إذ إنّ الشركة، بحسب تصريح النزاهة، تتنازل سلفًا عن أي حقّ بالاعتراض على أي قرار إداري بالإقصاء.
ورغم هذا النصّ الصريح، تجاهلت وزارة الطاقة، ولأسبابٍ غير مفهومة، رأي هيئة الشراء العام التي دعت بوضوح إلى استبعاد الشركة، وذهبت نحو القبول بمشاركتها وفوزها بالمناقصة نفسها، وبأسعارٍ مضاعفة مقارنة بالمناقصات السابقة.
ولتبرير مخالفته، لجأ الوزير إلى حيلة قانونية مكشوفة عبر طلب استشارة من هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل لتغطية قراره، متحدثًا عن “تمسّكٍ مشروع” بمشاركة الشركة، في حين أنّ ما فعله هو تمسّكٌ مشبوه. والسؤال هنا: هل فعلاً كان رأي هيئة الشراء العام “غير مفهوم” كما ادّعى الوزير؟
وللتذكير، فإنّ رئيسة هيئة التشريع والاستشارات التي طلب الوزير منها الرأي الاستشاري هي زوجة عمّ خليل خوري.
رئيس هيئة الشراء العام، جان العلية، أكّد في حديثٍ إلى “ليبانون ديبايت” أنّ الهيئة أصدرت رأيًا واحدًا على مرحلتين، طالبت فيه الجهة الشارية باستبعاد الشركة إلى حين صدور حكمٍ قضائي، مع تعليل القرار لتفادي أي طعنٍ محتمل. أي أنّ ما يقوله الوزير عن “رأيين” ليس سوى تضليلٍ متعمّد.
أما تبريره بأنّ الشركة الفائزة ليست نفسها التي يحقّق معها القضاء في ملفّ الباخرة Hawk III التابعة لشركة Sahara، فهو تلاعبٌ فاضح بالوقائع. إذ إنّ الحقيقة التي يحاول طمسها الوزير هي أنّ الشركتين ملاحقتان قضائيًا، وأنّ القضاء طلب التريّث في دفع مستحقاتهما إلى حين صدور الأحكام. والأسوأ أنّ العلاقة بين الشركتين أوثق ممّا يحاول الإيحاء به الوزير، فشركة Sahara التي حُجزت ناقلتها Hawk III تبيّن أنّها حملت الفيول من شركة Ecomarcet، وقد تبلغ وزير الطاقة رسميًا بهذه الفضيحة، وبدل التريّث في دفع 20 مليون دولار ثمن ناقلة مازوت وردّتها شركة Ecomarcet لوزارة الطاقة، سارع الوزير إلى دفع الاعتماد فور تبلّغه بإخبارٍ قضائي بحقّ الشركة. والأخطر أنّ المفاوض لصالح Ecomarcet في لبنان ليس سوى خليل خوري، وكيل Iplom International نفسه.
إلى ذلك، فإنّ قرار الشراء العام هو قرار مبدئي ينطبق على جميع الشركات المخالفة بشكلٍ عام. فشركة Iplom التي تمّ الحجز الاحتياطي على كفالاتها ومستحقاتها بقرار من النائب العام المالي القاضي ماهر شعيتو لحين انتهاء التحقيق، ارتكبت مخالفات واضحة، إذ قامت وزارة الطاقة بدفع ثمن عدّة ناقلات فيول أويل وردّتها الشركة مباشرة من روسيا على الأسعار العالمية، وليس على السعر المحدد في العقوبات الدولية التي أكّد مجلس الوزراء ضرورة احترامها.
ولولا أنّ “ليبانون ديبايت” والمهندس فوزي مشلب كشفا هذه المخالفات، لاستمرت وزارة الطاقة بدفع أثمان هذه الناقلات لسنوات، مهدرةً 6 ملايين دولار في الناقلة الواحدة.
وما زال اللبنانيون يذكرون بيان وزارة الطاقة الذي هاجم موقعنا في 12 حزيران ودافع عن توريد الفيول الروسي بالأسعار العالمية، قبل أن تضطر الوزارة لاحقًا إلى التراجع وتعديل دفتر الشروط لمنع أي دفعٍ للفيول الروسي بسعرٍ أعلى من السعر المحدد في العقوبات الدولية.
هذا التشابك يكشف شبكة فسادٍ متكاملة يُعتبر فيها خليل خوري محور التنسيق بين الشركات الأجنبية والجهات المحلية المستفيدة، وهو الاسم الذي يتكرّر في كل ملفات الفيول منذ أعوام، من Petraco إلى Iplom وEcomarcet، ما يثير تساؤلات خطيرة عن سبب استمرار هذا النفوذ ومن يحميه داخل الوزارة.
بدل أن يحاسب الوزير هذه المنظومة أو يضع حدًّا لهيمنة خوري وشركائه، اختار الدفاع العلني عنهم، بل وذهب أبعد من ذلك بتحريض الإعلام على المهندس فوزي مشلب الذي كشف خيوط الفساد في هذا القطاع، مطلقًا عليه الاتهامات بدلًا من تكريمه على جرأته في فضح المافيا النفطية.
فبدل أن يُكافئ وزير الطاقة من حارب الفساد، قرّر أن يهاجمه. وبدل أن يحمي من وقف بوجه المنظومة، اختار أن يبرّر للفاسدين. وهذا السلوك لا يُعبّر عن سوء تقديرٍ فحسب، بل عن منظومة سياسية تحمي من ينهب وتلاحق من يكشف.
أما الفخر لكاشف الفساد فوزي مشلب، فهو في اعتراف الوزير نفسه بأنّ الشركات العارضة “تخاف من فوزي مشلب وإخباره”. فلو احترم الوزير ومستشاره واجباتهما، لكانت الشركات المتورطة خافت منهما لا منه.
على الإعلام، الذي انجرّ بعضه إلى لعبة التبرير، أن يتحمّل مسؤوليته في التمييز بين السياسة والفساد، وألّا يتحوّل إلى أداةٍ في يد السلطة لتلميع المخالفات وتبييض الوجوه المتورّطة. فالإعلام المهني لا يُسوّق للصفقات، بل يفضحها، ولا يُدافع عن الوزير الذي يضلّل، بل يحاسبه.
الوقائع واضحة والملفات مفتوحة، وأي محاولة لتشويه سمعة من كشف الحقيقة لن تُغيّر في جوهرها شيئًا. فإشارة النيابة العامة المالية بالتريّث في دفع الكفالات هي حجز احتياطي قانوني بحدّ ذاته، كما جاء حرفيًا في تقرير “ليبانون ديبايت”:
“وقد صدر قرار بالحجز الاحتياطي على كفالاتها المصرفية بقيمة 9 ملايين دولار نتيجة هذه المخالفات لحين انتهاء التحقيقات.”
القضية لم تعد مجرّد ملف مناقصات، بل اختبارٌ للعدالة والجرأة في محاسبة الفاسدين. ومن المعيب أن يستمر وزيرٌ في موقعه بتبرير المنظومة عينها التي تُفرغ خزينة الدولة وتُهين اللبنانيين.
لقد آن الأوان أن تُفتح ملفات الفيول من جديد — لا لتبرئة الفاسدين، بل لمحاسبة من يغطيهم، ومن يوقّع لهم، ومن يبرّر لهم باسم القانون.