"ليبانون ديبايت" - نوال نصر
لا، لم يتفاجأ اللبنانيون مما حصل -في تلك الليلة التشرينية- في مخيم شاتيلا المثقل بموبقات وذنوب، بل ما فاجأهم حقًا هو مسار الموت الغريب العجيب بين بدارو وشاتيلا. فالشاب إيليو (أبو حنا) سلك في آخر لحظاته تلك الطريق و”صار ما صار”. حيكت قصص كثيرة وأسهلها: “في القصة مخدرات”. لكن -في الحقيقة- لا من رأى ولا من سمع. وحدهم القتلة -حتى إشعار آخر- يعلمون “نهايات” الشاب الجميل. والسؤال، ما هو الذنب الذي اقترفه كي يُقتل؟ كيف انتقل من بدارو إلى مخيم شاتيلا؟ ضلّ طريقه أم أُجبر على الانتقال؟ ماذا حصل في الداخل؟ هل اختُطف؟ هل استطاع الفرار و”طار” هاربًا؟ مات إيليو. انتهت حياة شاب “بيسوا الدني”. غدًا قد ننساه -نعم سننساه- أمام قصة موت غريبة أخرى. هذا ما حصل مع جوزف صادر، ألا تتذكرون؟ هذا ما حدث مع سامر حنا، ألا تتذكرون؟ كثيرة هي القصص التي تُغلق على “ولا ولا شي”. لكن، هنا، يحقّ لنا أن نطرح السؤال: ماذا عن كل السلاح بين أيدي القتلة في مخيم أخبرونا أنه أصبح نظيفًا؟ ماذا عن كمّ القصص التي راكموها في يومين عن شباب وصبايا يدخلون أصحاء ويخرجون مخدّرين؟ لماذا الإصرار على تظهير الصليب في فيديو الفتاة “المحششة”؟ ولماذا، كلما دقّ الكوز في الجرة، يظهر من يقول -من بيئة القاتل- للمسيحي الضحية: “قتلناك وأنت المسؤول”؟ في اختصار، في كل المشهد الأخير ثابتة: المسيحيون مستهدفون.
قُتل “إيليو” فخرج من يقول من “الفاجرين” لوالديه “ولدكم المقتول مذنب”. فلنُسلّم جدلًا أن إيليو ارتكب ذنبًا، فماذا عن ذنوب القاتلين؟ وإلى من حاول (ويحاول في كل مرة) تزوير القصص وإلصاق التهم في الآخرين نستعين بقول المسيح: لماذا تنظرون إلى القشة في عين أخيكم ولا تبالون بالخشبة التي في أعينكم؟
قصة السلاح الفلسطيني ليست “بنت اليوم”. فالقرار الدولي 1701 أتى واضحًا جدًا: جعل المنطقة الممتدة من نهر الليطاني إلى الحدود مع إسرائيل منزوعة السلاح، والمنطقة هذه تضم ثلاثة مخيمات فلسطينية: الرشيدية، والبرج الشمالي، والبص. وقبل هذا القرار، في الرابع عشر من آذار عام 2006، في إحدى جلسات “الحوار الوطني” الذي جمع “صقور” البلد تحت قبة البرلمان اللبناني، جرى الاتفاق على نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات في مهلة ستة أشهر. مضت الأشهر الستة. ومضت قرارات متتالية -آخرها في عهد الجمهورية الجديدة- بنزع السلاح. عشرون عامًا مضت وما زال السلاح الفلسطيني مرفوعًا في المخيمات التي تبعد عن فلسطين المحتلة آلاف الكيلومترات. فما لزوم الكلاشينكوف الروسي في أيادي شباب فلسطيني يتباهون به وبسلاح طالما تقاطر إليهم عبر الحدود اللبنانية السورية؟ طالما بدت الحكومات اللبنانية مصممة على نزع السلاح الفلسطيني حين يحين الظرف المؤاتي. فما هو هذا الظرف؟ متى يحين؟ سألنا مرارًا. وشاهدنا “مسرحيات” عدة تضمنت مشاهد نزع السلاح، لكن حادثة الشاب الجميل “إيليو” بيّنت الحقائق: المخيمات الفلسطينية ما زالت ممتلئة بأدوات الموت التي تصيبهم أولًا وتصبنا كلبنانيين خصوصًا. وموت “إيليو” مثال.
الثابت، بحسب مسؤول فلسطيني، أن الفلسطينيين، سكان المخيمات، ما زالوا يعتبرون سلاحهم في المخيمات في لبنان ورقة التفاوض الوحيدة الباقية في أيديهم. فهل نصدق أن السلاح الذي يتلاعبون به بعبثية لخدمتهم أم هو لقتلنا؟
يتوزع الفلسطينيون على 12 مخيمًا في لبنان هي: نهر البارد، البداوي، برج البراجنة، ضبية، مار الياس، عين الحلوة، الرشيدية، البرج الشمالي، البص، شاتيلا، المية ومية. اثنا عشر بركانًا متفجرًا في لبنان. فإلى متى نبقى رهائنها؟ سؤالٌ نستحق أن نحصل على جواب رسمي حقيقي صادق عليه.
نتكلم ونسأل ونراجع ونطالب لكننا نعرف أننا كمن ينادي في وادي الثعالب.
ما عاد السلاح وحده ما يثير القلق الكبير في لبنان. المخدرات في المخيمات قلق كبير آخر. حتى الفلسطينيون أنفسهم -ممن يعترضون على فساد من يتكلمون باسمهم- يخافون منه. فأين دولتنا من ذلك؟ هي نظفت في اليومين الماضيين غرف المخدرات؟ بصراحة، لا نصدق. وبصراحة أكبر نرى أن هناك من يتلاعب باللبنانيين وحتى بالفلسطينيين المدنيين الذين يودون العيش بسلام. هناك، بكلامٍ أدق، من حاول تغطية ما تعرض له “إيليو” بتظهير فيديوهات تحصل في قلب مخيم شاتيلا تتضمن شابات وشباب يقصدون المخيم للحصول على حقنة مخدر. هناك من تقصّد القول إن أولاد البيوت، من المسيحيين بالتحديد، هم من يتعاطون. هناك من يتقصد دائمًا تظهير البيئة المسيحية فاسدة، غير قادرة، ضعيفة. فيضربها ويبكي. يقتل بعض من فيها ويئن. في كل حال، سؤال الكثيرين اليوم: كيف تُنقل المخدرات إلى مخيم واقع في منطقة ذات نفوذ واضح معروف، وعلى حيطان زواريب المخيم صور السيد حسن والإمام الخميني تزيد عن صور ياسر عرفات؟ مخيم شاتيلا عائمٌ على خطايا تسلسلية. حوادث أمنية متكررة تجري فيه، ينفذها -على ذمة قيادي من فتح- أفراد يأتون من محيط المخيم إلى الحيّ الغربي والحرش المحيطين بالمخيم. هؤلاء تجار مخدرات. وهذه البقع عصية على الأمن اللبناني والفلسطيني معًا”. فمن بيده كلمة سرّ تشغيل غرف المخدرات في مخيم في قلب الضاحية الجنوبية؟ سؤالٌ يُطرح. وجواب قيادي فلسطيني عليه: “مخيم شاتيلا هو الخاصرة الرخوة لنا، يكثر فيه تجار المخدرات الذين يتبعون رؤوسًا كبيرة تنضوي في قوى وأحزاب بحاجة لهذه التجارة لتصمد”.
نعود إلى الشاب الجامعي، ابن كشافة لبنان والرهبان، الذي رأيناه في آخر لحظاته وهو يصارع الموت محاولًا أن “يطير” ليخرج من بؤرة شاتيلا. يا لها من لحظات عاشها. ترى، ألم يخطر في بال من “تفلسفوا” على مصابه أنه كان يهرب من خاطفين محتملين؟ ثمة فلسطينيون أطلّوا بتغريدات يقولون: “البلد لنا والمسمى “إيليو” متعاطٍ”. لا يا شباب، “إيليو” هو ابن البلد وأنتم لستم إلا لاجئين. لسنا عنصريين إنما واقعيين. نعلم أن الفقر يصنع لصوصًا كما يصنع الحبّ شعراء. وأنتم عانيتم من الفقر والفاقة والشعور بالمذلة، لكن هذا ليس معناه أن تنقلوا عقدكم وما استولد منها إلى بلاد استقبلتكم. ونعلم أيضًا وأيضًا أن هناك من يسرقون ويستدرجون ويقتلون من أجل حفنة مخدرات. واستدراج “إيليو” بطريقة ما إلى المخيم -بالخطف ربما- قد يكون بهذه النية. “إيليو” ليس متعاطيًا، وكل التحاليل التي أُجريت تحت إشراف أمنيين أكدت خلو المركبة وجسد صاحبها الضحية من أي مادة مخدرة.
الشاب الجميل ليس أول ضحية ولن يكون -للأسف- آخر الضحايا. لكن، ما لوحظ طوال هذا الأسبوع أن البلد واقف “ع نقطة”، والحرب اللبنانية، التي بدأت ببوسطة عين الرمانة، قد لا تحتاج -بعد مرور خمسين عامًا- إلا إلى لاجئ يردد: “أصبحنا نحن أهل الأرض”. نعم، سمعنا هذه العبارة من فلسطينيين يتحدّون، والظروف للأسف مؤاتية. هؤلاء تحدّوا وكأن المطالبة بحقّ “إيليو” -المسيحي- هو ضدّ كل فلسطيني. اعتقاد خاطئ وخطيئة عظيمة.
ماذا بعد؟
قبل مقتل “إيليو” الذي تناديه والدته في البيت وقلبها ينزف “ع أي دني فليت لمين تركت هالبيت”، اختفى جوزف صادر “على نفس الطريق”. ووالدته “المازة” ماتت وهي تجلس قبالة باب البيت تنتظر عودة فلذة كبدها الذي انشقت الأرض وابتلعته. سامر حنا قُتل أيضًا. رمزي عيراني اختُطف وقُتل أيضًا… واللائحة تطول وتطول. وكلما رفع مسيحي الصوت قيل “هذا عميل”. أيّ هراء هذا؟ وكلما سأل مسيحي: لماذا فلتان ترويج المخدرات؟ قيل “المستفيدون أولادكم”. منطقة الزعيترية -الفنار- ضمّت طويلًا تجار حشيشة ومخدرات. ومرت عقود قبل الانتهاء من ملف تاجر المنطقة “أبو سلة”. لكن، كم “أبو سلة” و”سلة” وُلد؟
ممنوع على المسيحي أن يئن، وإذا فعل يهددون بالحرب الأهلية. وكلمة أهلية -لمن لم ينتبه- تنبثق من كلمة “أهل”. أي أن المقصود بها الأقارب، المعارف، الأحباء، الأصدقاء، الآباء، الأمهات، الأشقاء والشقيقات. الحرب الأهلية -التي نتذكرها في المفاصل- خطيرة لأنها تحصل بين اللحم واللحم. فبلاها. كي لا نضطر ذات يوم إلى تمتمة مقولة: “تنذكر وما تنعاد” من دون أن نفهم معناها. هنا، قد يقف أحدهم ويقول: هل مقتل شاب يؤدي إلى حرب أهلية؟ جوابًا، من تابع طوال هذا الأسبوع تردّدات حادث مقتل “إيليو” يدرك أن هناك من يعمل في اتجاه استيلاد الحرب الأهلية واللعب على الوتر الطائفي. لا تصدقوا؟ ابحثوا عن الرجل الذي أمسك بالصليب الذي تضعه فتاة دخلت إلى مخيم شاتيلا، تتأكدون. مع العلم أن لا شيء يؤكد أن الفتاة حقًا مسيحية. مع يقيننا أن لا طائفة للمدمن. لكننا نسأل: لماذا تقصد فتاة -لا تعرف رأسها من قدميها- مخيمًا مليئًا بالعبثيين والفاسدين والمدمنين وهي ترتدي مسبحة وصليبًا؟ ولماذا حين يُسأل رجل دخل إلى المخيم: “من وين؟” يُجيب -بإخراج سخيف- “من جونية… أخطأتُ طريقي وأنوي تناول سندويش”؟ هناك -يا سادة- من يلعب بالنار. والدولة مضطرة أن تبقى “كوما” حتى إشعار آخر.