المحلية

ليبانون ديبايت
الخميس 06 تشرين الثاني 2025 - 07:02 ليبانون ديبايت
ليبانون ديبايت

إنبطاح أمام صندوق النقد الدولي ثمنه “الودائع” وكريم سعيد في المرصاد

إنبطاح أمام صندوق النقد الدولي ثمنه “الودائع” وكريم سعيد في المرصاد

"ليبانون ديبات"


في الوقت الذي تسوّق فيه بعض الأوساط السياسية لفكرة “الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي” كخيارٍ وحيد لإنقاذ لبنان، يتّخذ حاكم مصرف لبنان، كريم سعيد، مسارًا مختلفًا يهدف إلى حماية أموال المودعين والحفاظ على ما تبقّى من الثقة بالنظام المصرفي. هذا التوجّه الإصلاحي، القائم على مقاربة تدريجية وواقعية، أثار حفيظة دوائر مالية وسياسية تدور في فلك الصندوق، ما يفسّر الحملة الممنهجة التي يتعرّض لها الحاكم منذ تولّيه منصبه في آذار 2025.

فالمقاربة التي يعتمدها مصرف لبنان حاليًا واضحة لناحية إيجاد حلٍّ عادلٍ وتدريجيٍّ لأزمة المودعين، والتوصّل إلى وضع خطة إصلاحية واقعية وشاملة لإعادة هيكلة النظام المصرفي.


في كل الأحوال، من الأساسي التذكير بأن الأزمة التي أصابت لبنان ليست أزمة مالية فحسب، بل أزمة نظامية طالت القطاع المصرفي بأكمله، وهي نتيجة فشلٍ مؤسسيٍّ عميق هزّ ركائز القطاعين العام والخاص. فقد صرّح حاكم مصرف لبنان، كريم سعيد، خلال جلسة مجلس النواب المخصّصة لمناقشة مشروع موازنة عام 2025، بوضوحٍ لا لبس فيه، قائلًا: “الأزمة هي أزمة نظامية (Systemic Crisis)، وليست أزمة قطاع مصرفي بحدّ ذاته.”


هذا التصريح، الصادر عن المرجعية النقدية الأولى في البلاد، يُعدّ بمثابة إعلان حاسم عن طبيعة الأزمة، ويؤسّس لقراءة جديدة تستوجب حلولًا شاملة تتناول النظام المالي والاقتصادي ككلّ، لا المصارف وحدها.


وفي السياق نفسه، جاء موقف وزير المال ياسين جابر في كلمته أمام مؤتمر اتحاد المصارف العربية المنعقد يوم الخميس في 18 أيلول 2025، ليُعزّز هذا التوجّه، إذ قال: “الأزمة الأخيرة اختلفت عن سابقاتها لتشمل كامل النظام المصرفي، من خلال انضمام المصرف المركزي إلى عناصر الأزمة، وأصبحت أيضًا أزمة نظام مالي بعد أن اتخذت الحكومة اللبنانية في نيسان 2020 قرارًا بالتوقّف عن سداد ديونها المحرّرة بموجب سندات دولية متداولة بالعملة الأجنبية.”


هاتان الشهادتان، الصادرتان عن رأسي السلطتين النقدية والمالية، تضعان حدًّا للجدل الطويل حول تحديد هوية الأزمة.


في الأشهر الأخيرة، جرى تكريس عدد من المواد الأساسية في قانون النقد والتسليف كمرجعية في التفاوض بين مصرف لبنان والحكومة والجهات الدولية، ومنها صندوق النقد الدولي. وتنصّ المادة 13 من القانون على أن مصرف لبنان كيان عام مستقل ماليًّا، يخضع في علاقاته مع الغير للقواعد التجارية. أما المادتان 70 و72 فتحدّدان مهام المصرف، وأهمها الحفاظ على استقرار النقد والأسعار وسلامة القطاع المصرفي والتعاون الوثيق مع الحكومة.


فدور مصرف لبنان لا يقوم على اقتراح القوانين أو إقرارها، بل، وبموجب مهامه وصلاحياته المنصوص عليها في المادة 70 من القانون، يحرص على تقديم المشورة للحكومة استنادًا إلى أحكام المادتين 71 و72، ويقوم بتطبيق القوانين بعد إقرارها من مجلس النواب، بهدف تعزيز فعاليتها وضمان انسجام أي تشريعات جديدة مع الإطار التشريعي المصرفي القائم. فالحكومة هي المسؤولة عن تقديم الحلول والخطط لمعالجة ملف المودعين.


وتوضح المواد من 81 إلى 92 أن إقراض الدولة خيار استثنائي ومحدود، وأن المصرف لا يُفترض أن يكون ممولًا دائمًا لها، بل حارسًا للاستقرار النقدي والمصرفي ضمن هامش من الاستقلالية. ويسعى مصرف لبنان حاليًا إلى إعادة التوازن إلى ميزانيته. فإذا بقي العجز، يمكن للمصارف التجارية مقاضاة المصرف المركزي للمطالبة ببيع أصوله، أو قد يُطلب من الدولة تغطية العجز وفق المادة 113. وبمجرد إعادة التوازن، تصبح الالتزامات — أي الودائع — أكثر واقعية.


فهل سيتم تطبيق المادة 113 من قانون النقد والتسليف؟


هذه المادة تُلزم الدولة قانونًا بإعادة رسملة مصرف لبنان في حال تعرّض لرأسمال سلبي. فهل سيلتزم التشريع المقبل بتطبيقها؟


أما في ما يتعلّق بقضية الـ16.5 مليار دولار المسجّلة في حسابات المركزي دينًا على الدولة اللبنانية، فتعود جذورها إلى حساب بالدولار فتحته وزارة المال في المصرف المركزي عام 2004، كان يُستخدم بمعظمه لتسديد الفوائد و”اليوروبوندز” عند استحقاقها أو لتغطية مدفوعات عاجلة. وكانت الوزارة تطلب تحويل مبالغ بالدولار إلى الخارج لتسديد أثمان شحنات فيول أو استحقاقات، رغم علمها بعدم توافر السيولة بالدولار في حساباتها، وكان مصرف لبنان ينفّذ التحويلات ويقيدها على حساب المالية المفتوح بالدولار دينًا مؤقتًا إلى حين تسديده لاحقًا.


وبالاتفاق مع وزارة المال، كان المصرف يكشف حساب الوزارة بالدولار لتسديد التزامات الدولة، ولا سيّما سندات “اليوروبوندز” وثمن الفيول. وللتذكير، منذ فتح الحساب كانت الوزارة تتلقى كشوفًا شهرية بالحساب وحركته من مصرف لبنان من دون اعتراض رسمي. لكن مع انهيار سعر الصرف من 1500 ليرة إلى أكثر من 89 ألفًا، برزت بوضوح قيمة الدين البالغة 16.5 مليار دولار، بعدما كانت مقيدة سابقًا على السعر الرسمي في مصرف لبنان، وأُعيد قيدها وفقًا لسعر الصرف الجديد (89,500 ليرة لكل دولار)، ما دفع الوزارة إلى الاعتراض معتبرة أنها لم توقّع أي عقد قرض مع المصرف المركزي. ومن هنا، يؤكد حاكم مصرف لبنان أن هذه الأموال دين على الدولة لصالح المركزي، وهذا المبلغ يشكّل عنصرًا أساسيًّا في المعادلة، ويؤثّر مباشرةً على ميزانية المصرف وقدرته على مواكبة أي خطة إنقاذ وبالتالي تغطية الودائع. أما مقاربة صندوق النقد الدولي فتصبّ في خانة شطب هذا الدين وتحميله لمصرف لبنان، أي للمودعين في نهاية المطاف.


وفي ما يخصّ المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، تشدّد المصادر المصرفية على أهمية عدم الرضوخ لإملاءات الصندوق التي تؤدي في النهاية إلى تطيير الودائع بحجة العمل على قانون يساهم في ردم جزء من الفجوة المالية وتحميل الجزء الأكبر من الخسائر إلى المودعين عبر شطب رساميل المصارف.


فالمقاربة التي يعتمدها حاكم مصرف لبنان في المفاوضات تقوم على أهمية المحافظة على القطاع المصرفي وعدم إفلاسه، فيما يدفع الصندوق باتجاه شطب رساميل المصارف، ما يعني حكمًا إفلاسها لإدخال مصارف جديدة مكانها.


ويبقى السؤال هنا:


في حال شُطبت المصارف وأُنشئت أخرى جديدة، من سيتولى تسديد ودائع المودعين؟


هل تتحمّل المصارف الجديدة كلفة تسديد الودائع؟


وماذا عن العلاقة مع المصارف المراسلة؟


كيف يمكن بناء علاقات جديدة مع المصارف المراسلة خلال أيام، في حين أن بناء هذه العلاقات يحتاج إلى سنوات من العمل؟


وماذا عن إعادة النهوض وتمويل الاقتصاد؟


كلها تساؤلات يتجاهلها صندوق النقد الدولي، فيما يؤكد حاكم مصرف لبنان كريم سعيد أهميتها في مفاوضاته مع الصندوق.


حتى إن الانبطاح أمام صندوق النقد الدولي الذي يمارسه بعض مسؤولي الحكومة، وصل بالصندوق إلى فرض تعديلات على قانون إعادة هيكلة المصارف تُطيح بصلاحيات الهيئة المصرفية التي تعمل من أجل إعادة هيكلة صحية للقطاع المصرفي تحافظ على ديمومته ومعها حقوق المودعين، لا وفق المقاربة الحكومية – الصندوقية التي تنسف القطاع برمّته.


أما خطط الصندوق فتقضي بتصفية المصارف ومعها المودعين، ولن يبقى لهؤلاء سوى التعويض من مؤسسة ضمان الودائع بما قيمته 75 مليون ليرة فقط، مهما كان حجم الوديعة.


من هنا جاء اقتراح حاكم مصرف لبنان بتأليف الهيئة المصرفية من غرفتين: غرفة للأمور العقابية العادية الواردة في قانون النقد والتسليف، وغرفة ثانية استثنائية لمعالجة الأزمة النظامية الشاملة التي وقعنا بها منذ عام 2019.


أين المصارف اليوم من خطة ردم الفجوة المالية؟


فالمصارف التي صمدت لسنوات رغم أصعب الظروف تُثبت أنها قادرة على النهوض مجددًا إذا ما توافرت الإرادة السياسية والنية الصادقة للمعالجة. لكنها، في الوقت نفسه، تشعر بأنها مستبعَدة عن الجزء الأهم من النقاشات الجارية.


باختصار، يستمر التباين الواضح في وجهات النظر حول كيفية مقاربة الأمور لجهة طرح قانون الفجوة المالية. فالحكومة تبدو وكأنها عادت إلى نقطة الصفر وخضعت لضغوط صندوق النقد الدولي الذي يسعى إلى خطة “تصفير الودائع” وتطيير رساميل المصارف بحجة “المحافظة على قدرة الدولة على الاستدانة”.


كما ظهرت بدعة جديدة تطرحها الحكومة تحت عنوان “تدقيق جديد للمصارف” بمفعول رجعي يعود إلى عام 2017، أي قبل عامين من اندلاع الأزمة، بهدف تحديد نقاط الضعف والشوائب من دون تحديد معايير واضحة، وبهدف تصنيف إضافي للودائع، بحثًا عن حجج غير علمية ولا قانونية لشطب جزء منها. وتسعى الحكومة، بطلب من صندوق النقد الدولي، إلى تخفيض الفجوة المالية بأي ثمن، ما يعني حكمًا شطب المزيد من الودائع. ومن النقاط الخلافية الجوهرية أيضًا تغييب المصارف والمودعين عن أي نقاشات حول صياغة قانون الفجوة المالية وعدم إشراكهم فعليًا في صياغة الخطة، ما يثير تساؤلات كبيرة حول قرار الحكومة بتبنّي توصيات الصندوق لتصفية المصارف ومعها المودعين.

تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة