وفي ظل الغياب التام لأي تحضيرات لوجستية أو إدارية على بُعد أشهر قليلة من الاستحقاق، تبرز مسؤولية واضحة تتحملها الأحزاب المشاركة في الحكومة، التي يبدو أنها تسعى عمدًا إلى الدفع نحو تأجيل الانتخابات، تقنيًا، لفترة قد تمتد سنة أو سنتين.
ورغم المشهدية السياسية التي تُظهرها بعض الأحزاب عبر "معارك وهمية" للدفاع عن اقتراع المغتربين، تكشف أرقام وزارة الخارجية اللبنانية واقعًا مختلفًا تمامًا؛ إذ بلغ عدد المسجّلين حتى يوم أمس 55,548 ناخبًا فقط موزعين على السفارات والقنصليات حول العالم. وتصدّرت فرنسا لائحة الدول الأكثر تسجيلًا، تلتها ألمانيا، ثم كندا، الولايات المتحدة، أستراليا، الإمارات، ساحل العاج، والمملكة العربية السعودية.
ووفق وزارة الداخلية فقد تسلمت 43964 طلب تسجيل ناخبين من وزارة الخارجية والمغتربين، وذلك حتى تاريخ 13/11/2025 وعدد الطلبات المقبولة والمطابقة مع بيانات الناخبين 43275 طلب.
وتوضح مصادر الوزراة الى ان الـ689 ليسوا مرفوضين بالمطلق ولكن قد يكن بعضهم لا يحق له الانتخاب او اسمه ورد مرتين .
ولم يبقَ أمام المغتربين سوى ستة أيام قبل إقفال باب التسجيل في 20 تشرين الثاني الحالي، بعدما رفض مجلس الوزراء أمس تمديد المهلة. وهذا يعني عمليًا أن الأيام المتبقية لن تكون كافية لتعويض الفارق الهائل مقارنة بالعام 2022، حين بلغ عدد المسجّلين نحو 225,277 مغتربًا، اقترع منهم حوالى 141,575 ناخبًا، أي ما نسبته 65%.
يومها، صبّت أصوات المغتربين بمعظمها في صالح نواب "التغيير"، في رسالة واضحة تعكس رفضًا عارمًا للمنظومة التقليدية التي اعتُبرت مسؤولة عن الانهيار الاقتصادي والحروب والفوضى، ما جعل الناخبين في الخارج يبحثون عن بدائل جديدة.
وتبرز أيضًا، إلى جانب مسألة التسجيل، الإشكالية التقنية المرتبطة بتطبيق المادة 112 من قانون الانتخابات التي تنصّ على تخصيص ستة مقاعد نيابية للمغتربين موزّعة على القارات. غير أن هذا التوزيع ما زال يثير جدلاً واسعًا، خصوصًا لجهة الآلية العملية لإجراء الانتخابات في قارات شاسعة جغرافيًا وذات فروقات زمنية كبيرة، ما يجعل من تنظيم اقتراع موحّد وإحصاء النتائج مسألة بالغة التعقيد. كما أنّ معظم الدول التي تقع فيها الجاليات اللبنانية الكبيرة لا تمتلك بنى قنصلية كافية لإدارة عملية انتخابية بهذا الحجم، فضلًا عن الصعوبات اللوجستية المرتبطة بتأمين الصناديق، ونقلها، وتوثيق المحاضر، وضمان سلامة العملية الانتخابية. وتؤكد مصادر مطلعة أنّ عدم إصدار الدقائق التطبيقية الخاصة بالمادة 112 لا يعود فقط إلى إهمال إداري، بل إلى إدراك ضمني لدى المعنيين بأن تطبيق هذه المادة وفق ما هي عليه عمليًا مستحيل في الوقت الحالي، وهو ما يجعل تأجيل الانتخابات خيارًا مطروحًا بقوة، ولو جرى تغليفه بعناوين تقنية.
هذا الواقع، بحسب مصادر سياسية، شكّل عامل قلق حقيقي لدى معظم الأحزاب اللبنانية، بما فيها "القوات اللبنانية" التي تعلن حرصها الدائم على صوت الاغتراب. إلا أن مقاطعتها لجلسة اللجنة المكلّفة مناقشة التعديلات الانتخابية، ترافقًا مع صراخها السياسي، بدا وكأنه غطاء يخفي خشيتها الفعلية من نتائج تصويت المغتربين.
المشهد اليوم مكتمل العناصر لدفع الانتخابات نحو التأجيل:
-الوزارتان المعنيتان لم تُنجزا المراسيم اللازمة.
-المجلس النيابي لم يُقرّ التعديلات المطلوبة.
-الدولة منشغلة بالتحضير لزيارة البابا إلى لبنان نهاية الشهر الحالي.
-شهر الأعياد مقبل، ما يعني عمليًا ترحيل أي استحقاق إضافي.
وعليه، سيجد لبنان نفسه أمام مهل داهمة من دون ترتيبات ولا قدرة على تطبيق القانون النافذ، خصوصًا في ما يتعلق باقتراع المغتربين، ما يجعل التأجيل أمرًا محتومًا.
من جهتهم، يبدو أن جزءًا من المغتربين، لا سيما الأكثر متابعة للشأن السياسي، التقط مبكرًا إشارات نيات الطبقة السياسية، فانعكس ذلك فتورًا في التسجيل. أمّا الذين يميلون إلى "فريق الممانعة"، فقد أحجموا عن التسجيل خشية ما قد يواجهونه من ضغوط أو إجراءات تعسفية في بلدان الاغتراب إذا صوّتوا لصالح هذا الفريق.
وبناءً على هذه الوقائع، يبرز احتمال شبه مؤكد بتمديد ولاية مجلس النواب. فلو كانت الحجج المرفوعة من داعمي تعديل القانون لصالح الاقتراع لـ128 نائبًا تهدف فعلًا إلى "الحفاظ على صوت المغترب"، لكان الأجدى بهم ،أن يتكفلوا باستقدام الناخبين على نفقتهم إلى لبنان للاقتراع، مقدّمين لهم رحلة سياحية مقابل أصواتهم، بدل دفع البلاد نحو تمديد جديد مقنّع تحت عنوان "العجز التقني".