"ليبانون ديبايت"
لم تكن حوادث التسمّم المتتالية التي وقعت في أحد الأفران في جبيل مجرد حادث عابر، بل شكّلت جرس إنذار خطيراً فتح الباب أمام واحدة من أكثر القضايا الجنائية دقّة في السنوات الأخيرة. سبعة أشخاص دخلوا المستشفى خلال يومين، ثلاثة منهم نُقلوا مباشرة إلى العناية المركزة بحالة حرجة، فيما بقيت الأسباب غامضة والفرضيات الصحية عاجزة عن تقديم تفسير منطقي. عندها بدأت خيوط الحقيقة تتكشف في مكتب المحامي العام الاستئنافي في جبل لبنان، القاضي طارق بو نصار، الذي تعامل مع الملف بهدوء وحنكة قضائية، وطرح أسئلة دقيقة قلبت مسار التحقيقات الأولية.
منذ اللحظات الأولى، وجّه القاضي بو نصار عناصر الفصيلة إلى المستشفى لجمع إفادات المصابين والأطباء، ثم أمر بختم الفرن بالشمع الأحمر وإحضار صاحبه والعاملين للاستماع إليهم. كما كلّف طبيب القضاء في جبيل وطبيباً شرعياً بأخذ عينات من سائل المعدة للمصابين وإرسالها إلى مختبرات متخصصة، ليتبيّن لاحقاً أن المادة السامة هي مادة "اللِّنات" القاتلة.
مع صدور نتائج المختبرات، بدأ القاضي بو نصار بإعادة بناء التسلسل الزمني للحالات. وتبيّن أن أحد المصابين، أنطوان جميل شرفان، كان قد تعرّض قبل يوم واحد لتسمّم مشابه بعد تناوله منقوشة زعتر من الفرن نفسه. وتبيّن أيضاً أن العامل السوري محمد الأشيوي لم يكن موجوداً في ذلك اليوم لأنه كان في إجازة، فيما العامل الوحيد الحاضر في اليومين هو إبراهيم الحلاق.
ومن خلال التدقيق في تواريخ الحوادث، اتّضح أن كل واقعة تسمّم حصلت خلال الورديات التي كان يعمل فيها إبراهيم. ومع توسّع التحقيق الميداني، طلب القاضي بو نصار من الفصيلة فضّ الأختام مجدداً والدخول إلى الفرن برفقة مكتب الحوادث في جونية لإجراء كشف تفصيلي وأخذ عينات من المطبخ والمعجنات والمواد الأولية، قبل إعادة ختم المحل.
وأفادت الفرضيات العلمية التي ناقشها الضباط والاختصاصيون بأن مادة اللنات تفقد فعاليتها عند حرارة تفوق 250 درجة مئوية، في حين أن حرارة فرن الخَبز تصل إلى 300 درجة. وهذا يعني أن المادة السامة لم تُضف قبل الخَبز، بل بعده، ما رجّح فرضية أن شخصاً ما قام بدسّها مباشرة على المعجنات الجاهزة أو أثناء مراحل التحضير البارد.
عند هذا الحد، أصدر القاضي بو نصار إشارته الواضحة بإحضار إبراهيم الحلاق فوراً. وبموجب البرقية رقم 4920، كلّفت فصيلة غزير بإحضاره، وتم ضبط علبة السم بحوزته، ما عزّز الشبهات وثبّت الأدلة.
وبناءً على مجمل المعطيات، أصدر القاضي طارق بو نصار قراره بتوقيف إبراهيم الحلاق بجريمة المادة 549 (القتل العمد)، بعد ثبوت إقدامه على دسّ مادة اللنات السامة في معجنات اللحم بعجين والزعتر داخل الفرن، ما أدى إلى حالات تسمّم خطيرة كادت تودي بحياة أكثر من شخص.
شكّل هذا الملف نموذجاً للتحقيق القضائي المنهجي الذي جمع بين الدقة الطبية، والمتابعة الميدانية، وربط الوقائع المتفرقة، وصولاً إلى كشف الفاعل ومنع كارثة كان يمكن أن تتفاقم لولا الحزم في إدارة التحقيق.