المحلية

ليبانون ديبايت
الخميس 20 تشرين الثاني 2025 - 07:06 ليبانون ديبايت
ليبانون ديبايت

أكبر عملية سطو مائي في المتن الشمالي: والقضاء يتحرّك(صور)

أكبر عملية سطو مائي في المتن الشمالي: والقضاء يتحرّك(صور)

“ليبانون ديبايت”


في عمق المتن الشمالي، تحت بلدة نابية تحديدًا، تمتد مغارة البلّانة – أو مغارة الإنسان الأول – بخزانها الطبيعي الهائل الذي يُعدّ واحدًا من أهم مصادر المياه العذبة في المنطقة. هذا الخزان الجوفي، الذي تتوزّع قنواته من قرنة شهوان وصولًا إلى الربوة، كان تاريخيًا رئةً مائية تغذّي خط الضخ الأساسي نحو محطة ضبية، ومنها إلى ساحل المتن الشمالي وصولًا إلى العاصمة بيروت. مياه نقية بخصائص طبيعية نادرة، كانت كفيلة بتأمين استقرار مائي لعشرات آلاف العائلات، لولا تحويلها، على مدى سنوات، إلى مصدر استغلال ممنهج وخارج عن القانون.


منذ سنوات طويلة، ركّبت وزارة الطاقة تجهيزات للضخ داخل نطاق المغارة، لضمان إيصال المياه إلى محطة ضبية عبر عقارين يحملان الرقمين 555 و556، استأجرهما المدعو رجا عاصي من الرهبان. لكن ما خُصّص للمنفعة العامة تحوّل إلى منفذ خاص، بعد إقدام عاصي على إنشاء مسبح خاص داخل العقارين وإجراء تعديلات تحت الأرض تتيح التحكم بنقطة حسّاسة من خط التغذية. وتشير معلومات دقيقة من داخل مصلحة مياه ضبية إلى أنّ هذا الاعتداء ليس جديدًا، بل يعود إلى أكثر من عشر سنوات، بغطاء سياسي واضح من تيار معروف في المنطقة، وبصمت موظفين يدركون تمامًا ما يجري.


ومع الوقت، تحوّل محيط المغارة إلى ورشة صهاريج لا تهدأ: أكثر من مئة وخمسين “ستارن” يوميًا، وشاحنات تعمل ليلًا ونهارًا، ومحركات لا تُطفأ، وضجيج خانق يفترس ليل أنطلياس وجل الديب والزلقا ويمتد حتى الأوتوستراد الداخلي. كل ذلك مقابل تدفّق منظّم للمياه يُسحب من الخزان الطبيعي ويُهرَّب نحو مشاريع خاصة، بقدرة تصل إلى مليوني ليتر يوميًا، فيما الأهالي يستغيثون من شح المياه وانقطاعها شبه المزمن.


وما هو أخطر من الضجيج والحرمان هو نوعية المياه نفسها. مياه مغارة البلّانة تُعدّ من أنقى المياه الطبيعية في لبنان، لذلك تعتمد عليها مستشفيات كبرى في غسيل الكلى. مستشفى مار يوسف ومستشفى رفيق الحريري الحكومي يتسلّمان يوميًا “ستارنات” بسعر يصل إلى 80 دولارًا للواحدة. المفارقة الجارحة أنّ هذه المياه نفسها كانت ستصل إلى تلك المستشفيات مجانًا عبر الشبكة الرسمية، لولا الاعتداء على خط الضخ. الدولة تدفع ثمن ما تملكه، والمريض يدفع ثمن حقّه الطبيعي المسلوب.


وسط هذا المشهد، برز الدور الاستثنائي لرئيس بلدية أنطلياس، جورج أبو جودة. منذ اللحظة الأولى، تلقّى شكاوى الأهالي الذين ضاقوا ذرعًا بالضوضاء وبجفاف صنابيرهم، وقرّر – رغم الضغوط السياسية الهائلة – أن يواجه. راقب حركة الصهاريج ميدانيًا، وثّق المخالفات بالصوت والصورة، جمع إفادات الأهالي، وتتبّع خطوط السطو وصولًا إلى العقارين 555 و556 حيث تُدار المضخات بغطاء سياسي. ورغم محاولات العرقلة والترهيب، نجح أبو جودة في اتخاذ خطوة حاول كثيرون منعه منها: تسطير محضر ضبط رسمي بحق رجا عاصي بجرم التعدّي على منشآت الدولة وسرقة مياهها.


ولم يكتفِ بذلك. أحال أبو جودة الملف كاملًا – مرفقًا بالوثائق والفيديوهات – إلى محافظ جبل لبنان القاضي محمد مكاوي، الذي درسه بدوره وأحاله إلى النيابة العامة التمييزية، واضعًا التحقيق على سكة قضائية كان يفترض أن تسلكها منذ سنوات لولا الضغوط السياسية والتواطؤ الإداري.


اليوم، تتكامل خيوط واحدة من أكبر عمليات استنزاف المياه في المتن الشمالي: مغارة استراتيجية تُنهَب، مياه الدولة تُشفَط علنًا، صهاريج تتحرك بلا توقف، ضوضاء تُرهق السكان، مستشفيات تدفع ثمن مياه مسروقة، موظفون يعلمون ويسكتون، وضغط سياسي يرفع الغطاء عمّن يربح على حساب عطش المواطنين.


ما يجري ليس “مخالفة”، بل جريمة مائية مكتملة الأركان: نهب لمورد استراتيجي، تحويل منشآت عامة إلى مصدر ربح خاص، تجفيف خط الضخ الأساسي نحو المتن وبيروت، وحرمان عشرات آلاف العائلات من حقها الطبيعي بالمياه. وفي ظل هذه الفوضى، لا يزال المواطن هو الضحية الأولى والأخيرة: عطشٌ في البيوت، فواتير صهاريج تلتهم الدخل، وضوضاء لا تتوقف… والمياه تُسحب من تحت الأرض وتُباع للناس الذين هي ملكهم أساسًا.



تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة