وفي خضم هذه الأجواء، جاءت عملية اغتيال رئيس أركان حزب الله، السيد هيثم الطبطبائي، في الضاحية الجنوبية لبيروت، لتمنح التطورات بعداً إضافياً وخطيراً.
الرئيس يُكرّر
أمام هذا المشهد، تقف الدولة اللبنانية متفرّجة. مبادرة “النقاط الخمس” التي أعلنها رئيس الجمهورية جوزاف عون في ذكرى الاستقلال من قاعدة بنو بركات جنوبي الليطاني، تحمل دلالات عديدة، لكنها ليست جديدة، إذ إنها عملياً “تجميعة” لأفكار سابقة أعاد الرئيس صياغتها وترتيب أولوياتها، مطلقاً إياها كمبادرة تهدف إلى وضع أسس لبنانية للتفاوض.
لكن ما يتجاهله الرئيس – أو فريقه – أن البنود التي أعاد طرحها كانت قد رُفضت سابقاً من الإدارة الأميركية عندما سُلّمت إلى المبعوث الأميركي طوم براك، رداً على الورقة التي سلّمها الأخير إلى المسؤولين اللبنانيين. وقد كان مصير الردّ اللبناني الرفض من الجانبين الإسرائيلي والأميركي معاً. يضاف إلى ذلك أن إسرائيل ردّت ميدانياً على مبادرة عون عبر تنفيذ اغتيالات في عمق جنوب الليطاني خلال اليومين الماضيين.
عملياً، يتجاهل الرئيس نقطة أساسية سبق أن أشار إليها رئيس الحكومة نواف سلام في حديثه إلى وكالة “بلومبرغ” قبل أيام، حين قال بثقة إن الردّ الأميركي – الإسرائيلي على المقترح اللبناني كان سلبياً. ما يعني أن أي مقترحات رئاسية لا قيمة سياسية لها، طالما أن تل أبيب وواشنطن حسمتا موقفهما.
وهنا يبرز بوضوح غياب التنسيق بين الرئيسين عون وسلام، خلافاً للمعلومات التي تُروَّج عن وجود تنسيق رئاسي واسع قبل إطلاق المبادرة. إلا إذا كان سلام يتعاطى بالشيء ونقيضه: يمنح موافقة للرئيس ثم يعود ويطعن بها إعلامياً.
توسيع منظومة الاغتيالات
من جانبها، ردّت إسرائيل على مبادرة عون عبر توسيع “منظومة الاغتيالات” لتطال الضاحية الجنوبية للمرة الثانية بعد الحرب، وللمرة الأولى منذ توقيع اتفاق 27/11، حيث يجري استهداف قيادي من الصف الأول.
أكبر من اغتيال شخص
الأهم أن اغتيال الطبطبائي ورفاقه في الضاحية جاء متزامناً مع حركة سياسية إقليمية تجري تحت المجهر الأميركي، وتتخللها قنوات كلام مع حزب الله. ما يعني أن توقيت الاغتيال يستبطن رغبة إسرائيلية في القضاء على المسار السياسي الذي فُتح مؤخراً. والتجربة تشير إلى أن إسرائيل، منذ السابع من أكتوبر، تمارس الاغتيال كفعل مدروس يرتبط بأهداف سياسية وعسكرية واضحة.
وإن دلّ هذا على شيء، فهو أننا نعيش مرحلة مشابهة لتلك التي سبقت 27 أيلول 2024، حين لجأت إسرائيل إلى تصعيد متدرّج تخللته اغتيالات طالت شخصيات أساسية في هرم قيادة الحزب، وصولاً إلى عمليتي تفجير أجهزة “البيجر” والاتصالات اللاسلكية، ثم اغتيال السيد حسن نصرالله. وكل ذلك جاء ضمن توقيت إسرائيلي مدروس للارتقاء بالتصعيد والاستفادة من عمليات تفريغ الهرم القيادي. وقد جاء اغتيال الطبطبائي أمس منسجماً مع هذه المناخات ومع الدعوات الإسرائيلية المتواصلة لتوسيع الضربات.
حركة مكوكية
في الوقت نفسه، كانت محركات خارجية تعاود العمل لإنقاذ الوضع اللبناني عبر محاولة فرض “مظلّة حماية عربية” تدفع بيروت إلى التفاوض مع إسرائيل وتخلق ظروفه.
وللمرة الأولى منذ مغادرة رئيس المخابرات المصرية اللواء حسن رشاد بيروت، حصل دفع مصري جدي للمبادرة عبر لقاءات جرت بين مكلفين لبنانيين والحزب لإعادة إحياء التواصل. وقد تلقّت القاهرة جواباً نظر إليه بإيجابية، شجّع على البحث في زيارة محتملة لوزير الخارجية المصري إلى بيروت، ربما برفقة عناصر أمنية مكلفة بإعادة فتح قنوات التنسيق المباشر مع الحزب.
وفي السياق نفسه، جاءت زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى واشنطن ولقاؤه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب لتضيف عنصراً مهماً. فقد تحدث بن سلمان بصراحة عن مسعى سعودي لدفع المفاوضات الأميركية – الإيرانية قدماً، معلناً دعم المملكة لأي اتفاق يُبرم بين طهران وواشنطن.
قبل ذلك، كان معاون رئيس مجلس النواب، النائب علي حسن خليل، يزور طهران للمشاركة في مؤتمر “القانون الدولي تحت الهجوم”. وفُهم في بيروت أنه قصد العاصمة الإيرانية لاستطلاع الموقف من دعوات التفاوض الإقليمية، بما فيها الشق المتعلق بلبنان، لا لرفع “شكاوى” كما روّج البعض، إذ لا أزمة ثقة بين بري والحزب.
وتردّد في بيروت أن خليل لمس استعداداً إيرانياً للانخراط في مفاوضات مع الأميركيين، وربما لمس أيضاً رغبة لدى طهران في تشجيع الحزب على إبداء مرونة أكبر تجاه الدور العربي.
وهذا قد يفسّر قبول الحزب الجلوس مع شخصيات عربية – ولو عبر وسطاء – لمناقشة العروض. كما لا يمكن عزل ما تسرّب عن لقاء بين الموفد السعودي يزيد بن فرحان وشخصية قيل إنها من الحزب، خصوصاً بعدما أجّل بن فرحان زيارته السابقة إلى بيروت لدواعٍ تقنية قيل إنها مرتبطة بوجود الرئيس جوزاف عون في بلغاريا والمدير العام للأمن العام اللواء حسن شقير في الإمارات.
وفي الإطار ذاته، لا يمكن تجاهل زيارة مستشارة الرئيس الفرنسي إلى بيروت ولقاءاتها مع قيادات في الحزب، إذ كانت باريس الجهة الوحيدة التي أعلنت صراحة إجراء لقاءات رسمية معه. كما يتقاطع هذا المسار مع لقاءات مصرية – فرنسية وفرنسية – سعودية عقدت في باريس لتنسيق الجهود بشأن الملف اللبناني.
نسف اللحظة السياسية
خلاصة الأجواء كانت تفيد بوجود دفع لتحقيق اختراق حقيقي، وسط اعتقاد بأن جولة المباحثات الحالية قد تكون الأخيرة قبل التصعيد. لكن إسرائيل فاجأت الجميع بهجوم الضاحية، ناسفة كل الأجواء السياسية التي تشكّلت، وجاعلة من الاغتيال نفسه مقدّمة للتصعيد وليس نتيجة له.