"ليبانون ديبايت" - روني ألفا

غابت الثورة فحضَرَ وجهُها البار. توصيفٌ يعكسُ الإنطباعَ الأول لمتابعتنا وقائعَ المؤتمر الصحفي الذي عقدهُ نقيبُ المحامين ملحم خلف نهار أمس. ملفتٌ الحضورُ الذي لبّى. أكثرُ لفتاً للأنظار الخطابُ الإستراتيجي الذي أعادَ إلينا قليلاً من وطنٍ افتقدنا وجهَهُ البهي وصوتَهُ الشجي وحضورَهُ في محافلِ العالم. جرعةُ رجاءٍ وسطَ حشرجاتِ الموتِ السياسي للدولة. الماءُ في أَباطحِ الأَرْضِ لا يُفطَنُ له، فإذا حُفرَ عنه مقدارُ ذراعٍ جاش. مبادرةُ خلف ورفاقه حفرٌ في أباطِح الوطن عن ماءٍ إصلاحي صالحٍ للشرب.

لا يُتَوَقّعُ أي علامةِ رِضى على المبادرة أو على المشاركين حضوراً لدعمها. المبادرةُ أشبَهُ بقتلٍ رحيمٍ للأحزابِ التقليدية سيما الذين بلّوا أيديهم في الموبقات. المبادرةُ خطابٌ مُعَقلنٌ لثورةٍ جَمَحَتْ فَجَنَحَتْ. ليس بالإمكان بعد اليوم السطوَ عليها على المستديراتِ والمفارقِ والطرقاتِ الدولية. المبادرةُ قطعت الطريقَ على أي إستثمارٍ حزبيٍ وفئويٍ لأوجاعِ النَّاسِ المتناسلة. أوجاعٌ أثخَنَت فينا ونالَت منّا.

الخطابُ الإفتتاحيُّ كان أشبَهُ بإعلانِ مبادئ. من يقرؤها ببعدِها الغَزَلي يراها تخطبُ ودَّ السلطةِ في محطاتٍ عدة صرّحتْ خلالها هذه الأخيرة بالشبيهِ من المبادرات والمقترحات. من يقاربُها بعينِ الثورةِ يتيقَّن أن البنيةَ الباليةَ لا يمكنُ أن تكونَ شريكةً في قطفِ الثمار.

لبنان الذي يتوقُ اليه اللبنانيون لا يشبِهُ البنيةَ القديمة. رثّتْ وتحوّلتْ الى نمليّةٍ قديمةٍ في بيتٍ مهجور. بالطبع تجنّبتْ المبادرةُ المساسَ بخطوطِ التوتر العالي. سلاحُ المقاومة. انتخاباتٌ نيابيةٌ مبكرة. تابوهاتٌ لم يكن من الضروري إقحامها خوفاً على تفسّخِ المبادرة. ما وقعتْ به الثورة تجنّبته المبادرة.

المسألةُ تتعلقُ اليوم بالإجابة عن أسئلةٍ عدة. كيف سيكونُ شكلُ الحوار مع جبهةٍ جديدةٍ فرضت نفسها شكلاً ومضموناً على الحياة السياسية في لبنان؟ ثم كيف سيكون شكلُ الحوار مع المجتمعِ الدولي الذي ومن دونِ أدنى شك سيعتبرُ المبادرةَ أرضيةً صالحةً تدفعه للتنسيق بشأن مندرجاتها مع واضعيها؟ كيف سيكونُ الشكلُ الجديدُ للإعتراض الذي كانت تديره الكنيسة بكافة أطيافها بعد أن شاركَ أساقفتها في حضورِ حفلِ الإعلانِ عنها؟ وكيف ستتلقفُ القوى السياسية المبادرة؟ باللامبالاة؟ بالهجوم ؟ بالإستيعاب؟

من دون شك كان لمحتوى المبادرة وقعٌ أكبر عند اللبنانيين من وقعِ كلمة رئيس الجمهورية بمناسبة الإستقلال. ليس من موقعِ التشكيكِ بالكلام الرئاسي إنما من موقع عدم استجابته لما يُرِيدُ أن يسمعه اللبنانيون. لقد سأمَ اللبنانيون الوعودَ القاطعة. ملّوا تقاذفَ الإتهامات. تعبوا من البطولاتِ الفارغةِ والجيوبِ الممتلئة. كلامُ رئيسهم أخلاقي. يريدونه أقل أخلاقية في محاربة الفساد. وقاحةٌ مع انجازات أفضل بكثير من أخلاق بلا صلاحيات.

لأول مرة رأينا نهارَ أمس رجلاً عادياً يتلو مقدمةَ مبادرة. نقيبان لا يمكنُ إدراجهما في أي خانةٍ حزبيةٍ أو طائفية. حاوِلوا معي تحديدَ طائفة كل منهما ستشعرون بالسخف. رجالُ الدين صفقوا البارحة عند مطالبةِ ملحم خلف تحريرَ الدين من الطائفية. التصفيقُ العلني أحدثَ وقعاً أقرب الى انفجار أخلاقي.

أن تنضوي تحت لواء المبادرة المهنُ المستقلةُ ليس بالأمر العرَضي. هناك قوةٌ كامنةٌ قررت أن تنوجد. أن تجدَ ذاتها العلنية من أجلِ البلد بعد ان صار على قابِ قوسين من الضياع.

كثيرٌ من الطروحات التي وردت في المبادرة سَبقَ وقرأناها في العديد من الأوراقِ والمقترحاتِ على مدى السنوات الماضيةِ كلها بقيتْ حبراً على ورق. سرطانُها الذي فَتكَ بها كان استعمالُها كوقودٍ انتخابي. الحلولُ ليست من عالمِ الغيب. هي في الطائف ولم تخترع المبادرةُ البارود بقدر ما اخترعت إرادةً لتطبيقِ الطائف. من هذه المبادرة يمكن الإنطلاقُ نحو البناء.

كيفية تسويقِ المنعطفِ الذي اجترحه ملحم خلف سيكون معياراً يقاس عليه النجاحُ أو الإخفاق. أن تُقنِعَ المريضَ بضرورةِ الموت هو أكبرُ تحدٍ لذكاءِ التسويق. عليك أن تفعلَ أكثرَ من ذلك أيضاً. عليك الطلب منه أن يشكركَ ويعترفَ بفضلكَ لأنك قتلته.

أسَّسَ البطريركُ الراحل مار نصرالله بطرس صفير لقاءَ قرنة شهوان. بسرعةٍ تحولت عظاتُه الى جبهةٍ متنية. يختلفُ الباحثون عن جدواها إنما يمكنُ القولُ أنها دفعت بالخصومات الى حدود العداوات. نحن اليوم أمامَ لقاءٍ سياسيٍ بامتياز. لا أعلمُ إذا كان سيتموضعُ عنوانُه جغرافياً في المكانِ الذي انعقدَ فيه ولكن سيكون عليه التفكّرَ ملياً وبكثيرٍ من الحكمةِ كيف يذيبُ الخصومات ويزيلُ العداوات ويفرضُ نفسه بما ومن فيه مُحاوراً داخلياً وخارجياً من أجل لبنان.