إذا كان العَلَم اللبناني «كذبة أول نيسان» فيعني أن الأعلام الأخرى كذبة كل الشهور. وفي المقابل إذا أهين علم عربي أهينت كل الأعلام. وإذا أُذِلّ شعب عربي أذلّ كل الشعب العربي.. وإذا سقطت مدينة عربية سقطت معها كل المدن...
هذا ما تعلمنا ومارسنا على امتداد تربيتنا الثقافية والسياسية والوطنية. وأتذكر أنه عندما وصل الجيش الإسرائيلي إلى بيروت في غزوة 1982، قيل «إن بيروت أول عاصمة عربية تسقط».. لكنني كتبت في مجلة «المستقبل» يومها «لو لم تصل إسرائيل إلى كل العواصم العربية لما وصلت إلى بيروت«. والعكس صحيح. فعندما تحتل إسرائيل بيروت فكأنها احتلت كل مدينة عربية. هذا ما نود أن نقول لرسام الكاريكاتور في جريدة «الشرق الأوسط» التي نتابعها منذ سنوات. فكأن هذا الرسام لم يجد ما يدغدغ «عروبته» ومشاعره، وسط هذه الحروب، وتمزّق الأمة العربية، سوى لبنان لينفي وجود عَلَمه، وينفي بذلك وجوده.
لم يجد هذا «البائس» سوى بلد يكافح من أجل حريته منذ نصف قرن ليشمت به؟ أهو انتماؤه «العربي» يملي عليه ذلك في هذه الظروف المصيرية، وكلنا يعرف أن إسرائيل لم تستبح لبنان وحدها، وإنما لوثت أنظمة عربية أيديها بدماء أبنائه. وبعد نصف قرن من حروب «الآخرين» عليه، كأنه بات «مكسر» عصا، وبات عَلَمه «خرقة» وشعبه افتراضياً. إذا كان العَلَم «وهماً» فالشعب وَهم!
وكذلك الحدود، والتاريخ، والجغرافيا، والثقافة. فشعب يُنتزع منه «عَلَمه» كأنما انتزع منه وجوده. إنه «المقدس» فوق كل «المقدسات»، والقيمة الأثمن، التي لا تتسلع في جريدة أو تُبادل في موقف مناسب، أو تُباع في صفقة. وهذا ما غاب عن «الكاريكاتورجي»، بيّاع الأعلام، والرايات، والأوطان، والعروبة... ذلك أنه لم يشعر ربما بأي انتماء، ولو شعر لكان عرف أنه مسّ جوهر بلد بكامله. ومسّ مشاعر ناس في صُلبها. فهل لديه مشاعر أو انتماء؟ كلنا يعرف أن في كل بلاد انتماء ما غائباً أو ناقصاً أو غير مكتمل عند فئة أو أخرى لأسباب كثيرة. هذا ما خبرناه على امتداد الربيع العربي (وقبله)، عندما انحاز «مواطنون»، إلى أعداء وطنهم، فخانوه؛ سواء في سوريا أو في اليمن، أو في العراق، أو في ليبيا... وصولاً إلى لبنان. إنها مسألة انتماء، وقضية ولاء. ذلك أن هذا الرابط الوجودي انحلّ عند بعضهم، فتحوّل لعبة سلطوية، أو تجارية، وسياسية: أي اللعب بالمقدسات الوطنية. وكلنا يعرف أن ما تعرّض له لبنان من تدخلات خارجية عربية وغير عربية على امتداد تاريخه يعود إلى هذه الأسباب. وقد دفعنا ثمن ذلك غالياً. وأصاب العَلَم في هذه الحروب ما أصاب الأرض والدولة والجيش! فما يصيب هذه يصيب العَلَم، فهو المرآة والجامع والغامر صنو الهواء يهتز لكل عاصفة أو بارقة. وعندما ترتفع كل أعلام الطوائف والدول فوق عَلَم البلاد فيعني أننا صرنا بلا علم، وهذا التمزّق الفوقي ينعكس على ما هو جوفي وتحتي: تتمزّق الأرض قبائل، والمذاهب دويلات، والهوية بلا قسمات (أَوَلَيس هذا ما يحصل في العراق وسوريا وليبيا؟).
[باسم الحق العربي
فكل الذين شرّفونا إلى لبنان تحت عنوان استرجاع فلسطين، أو الحق العربي، أو القضية المركزية، ضلت بهم السُبل، إذ صوبوا أولاً على العَلَم اللبناني، رمز الوحدة، والسيادة والدولة، ثم على الجيش، ثم على الأرض... فكانت خطوط تماس وكانتونات... وهكذا فعلت إسرائيل، والنظام السوري، ومن ثم إيران. تدمير كل ما يرمز إلى وجود بلد، من وشائج، تاريخية أو عروبية أو انتمائية. أَوَليس هذا ما يفعله «حزب الله» (مع النظام البعثي)، منذ عقود باسم مقاومة العدو الإسرائيلي! شعار؟ نعم! لكنه مفيد في طرق استغلاله لتدمير بلد من دون الحصول على «التحرير». وإذا تم التحرير فاستغلال التحرير لإلغاء البلد. إنها المعادلة الإيرانية. فـ»حزب الله« (وقبله آل الأسد) جعلوا من العَلَم اللبناني «كذبة» لينفوا وجوده، ويلغوا شعبه، ويرفعوا عَلَم ولاية الفقيه كرمز وحيد لولاية الفقيه على لبنان. (وهذا ما حاولوا فعله في سوريا والعراق واليمن والبحرين).. فكما يريدون جعل الشعب العربي على أرضه «المحتلة» كذبة أول نيسان، فها هم مستمرون في مشروعهم الاستعماري التوسعي (صنو إسرائيل أو بديلها). ونذكر هنا أننا قمنا بتظاهرات عديدة في السبعينات دعماً لعروبة الجزر العربية عندما أراد الشاه المخلوع أن ينصّب نفسه شرطياً على المنطقة. وهذا عهدنا اليوم عندما نؤكد وقوفنا إلى جانب الشعب السوري (وعَلَمه)، في ثورته على نظام آل الأسد، ومع الشعب العربي الذي يسعى لاسترداد بلاده من خامنئي، وكذلك وقوفنا المطلق مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج، في مواجهتها الإرهاب الفارسي، و«داعش«، دفاعاً عن عروبتها، وسيادتها: كل هؤلاء المدافعين عن شرفهم الوطني تحرّكوا تحت أعلامهم، الرمز المقدس في العقول والأديان، والولاءات..
فماذا لو حذونا حذو هذا الرسام، وقلنا، بعد دحر الشعب اليمني خوارج الحوثيين، أن عَلَم اليمن كذبة... أو علم مصر بعد حرب الأيام الستة كذبة، أو عَلَم الأردن، أو فلسطين المحتلة كذبة... وصولاً إلى لبنان...
لكن المؤلم أن تأتي الطعنة في ظهر لبنان من رسام في جريدة عربية تلتقي في نظامها مع أكثرية الشعب اللبناني، في مواجهة المخطط الإيراني الإرهابي.
ومن الطبيعي أن يلتقي من استباح العَلَم اللبناني وسيادته وسلّم الجنوب اللبناني المفترض أنه حُرر، إلى خامنئي، ويحاول تدمير هوية الشعب، وتاريخه، ويشوّهها، ويصادرها، من الطبيعي أن يتلقى هذا «الكاريكاتور» الذي يصب في توجهاته، ويستغلها ليحاضر في ولائه «للعَلَم» كالعاهرة التي تحاضر بالعفة. اتخذوا من هذه «الهفوة» ذريعة، لا لكي يعلنوا «غرامهم» بالعَلَم اللبناني (فقط)، بل لمهاجمة المملكة العربية السعودية، تماماً كما اتخذوا من إلغاء الهبة للجيش اللبناني، حجة لتصوير هذا البلد العربي الشقيق، وكأنه عدوّ السيادة... والجيش... بل كأنما يراد فصل لبنان عن محيطه العربي... ليقولوا للعالم إذا كان هذا هو الموقف فيعني أننا على حق. ولطالما ردّد هؤلاء «أن لبنان لم يكن موجوداً قبل «حزب الله». بل كأنهم يقولون «معهم حق»، فالعَلَم اللبناني كذبة... وعَلَمُنا الفارسي هو الحقيقة! وشعبه خرافة... وافتراض ونحن الكانتونيين الواقع الطبيعي... الحق معهم لا دولة في لبنان... ودويلتنا هي الدولة... ولكي يؤكدوا «دفاعهم» المنافق عن «العَلَم»... قاموا باقتحام جريدة «الشرق الأوسط«، وخرّبوا محتوياتها وأهانوا موظفيها «دعماً» للبنان!.. ومن جديد استنكرنا الاعتداء عليها... فهؤلاء معتادون إحراق التلفزيونات والجرائد... من جريدة «المستقبل« في 7 أيارهم الصهيوني، وتلفزيون «المستقبل«، إلى تلفزيون «الجديد»... فالتخريب جزء من «عقيدتهم» المقاومة، فما بالك إذا قاموا بذلك تحت شعار الدفاع عن عَلَم لبنان والسيادة... وهم عملاء عند ولاية الفقيه وأعداء للمملكة السعودية والعرب؟
[المواجهة السلمية
لكن إذا كان لبنانيو ثورة الأرز التزموا الديموقراطية والمواجهات السلمية، والقيم الجمهورية في مواجهة ميليشيات «حزب الله« وصواريخهم وطائراتهم، فلا يعني ذلك أنهم خاضعون. بل قرروا المواجهة بالطرق الديموقراطية لكي لا يتكرر جنون الحروب، ويدمر كل ما بُني في العقدين الأخيرين. هذا خيار. المقاومة الشعبية السلمية أجدى، والدليل أن تظاهرات 14 آذار هي التي أخرجت جيش آل الأسد من لبنان، وأنها أدت إلى هزيمة 8 آذار في الانتخابات النيابية... وهذا لا يعني تبني مقولة «الصمت» من ذهب، بل إن أصوات وأقلام الكتّاب والسياسيين اللبنانيين المؤمنين ببلدهم وعروبته الديموقراطية، هم في ساحة المواجهة مع إرهاب سلاح حزب خامنئي بما في ذلك الاغتيالات... وأن بعض العرب هم الذين يساعدوننا على هذه المهمة الصعبة وعلى رأسهم المملكة السعودية... معنوياً ودعماً للجيش والدولة. فلبنان وحده عاجز عن رد مخطط فظيع رسمته إسرائيل ونظام آل الأسد وإيران لإلغاء دوره العربي، والحضاري، والوجودي، والكياني. ثلاث دول إرهابية كبرى تطوّق لبنان، وتهدده، فإذا كان العرب قرروا أن يتخلوا عنه بذرائع أو بحجج، فيعني أن مواقفهم تخدم هذا المثلث الإرهابي الذي لن ينجو منه بلد عربي أو حضاري، وتخدم جعل لبنان منصة إيرانية للعدوان على العالم العربي. لا تريدون لبنان، عال! فسيقاوم بلحمه الحي، وبإرادته، وبعَلَمه، وستندمون حين لا ينفع الندم.
نحن هنا نلوم رسام الكاريكاتور البائس. فالعرب بشعوبهم وكُتّابهم ومفكريهم وأنظمتهم يعرفون جيداً أن الذين يؤمنون بالعَلَم اللبناني كرمز سيادي هم السياديون، وليس مرتزقة الخوارج وإيران، ويعرفون أن مخططاً يرسم لاحتواء هذا البلد، ويعرفون أنه تمّ اغتيال رموز «السياديين» (رفعوا العَلَم في 14 آذار تحت شعار «لبنان العروبة أولاً»)، لقمع كل تمسك بعروبة لبنان وكيانه وتاريخه واستقلاله. بل ويعرف العارفون هذه السخرية السادية من العَلَم اللبناني بما يوحيه ويمثله، لا تصيب أعداءه، بل المنتمين إليه، ولا تصيب جماعات «حزب الله« و8 آذار، بل من يواجهونهم: وإذا كانت المواجهة السلمية مرشحة للاستمرار، فبرموز السيادة، والوحدة، والعروبة. فإذا خُلع هذا الرمز الذي كلما ارتفع أعلن احتجاجاً على منتهكيه، فماذا يتبقى للبنانيين... لا شيء! أقصد لبنانيي الولاء... لا لبنانيي العمالة والنكران. لا شيء! فإذا كان بعض الرسامين باتوا أميل إلى اعتبار هذا البلد «لزوم ما يلزم» لهم، فيعني تسليمه تسليم اليد لأعدائهم بالذات. وإذا كان «حزب الله« دؤوباً على تعطيل المؤسسات وتدمير الدولة، والديموقراطية، فيعني أنهم يسلمون لبنان «لنظام إيراني« استبدادي، سيقضي على كل علاقة بالعرب، وبالديموقراطية، وبالتاريخ... فماذا اختار العرب؟ هل بات بعضهم وراء الكاريكاتور «العَلم اللبناني كذبة نيسان» أم وراء دولتهم، وناسهم، وأهلهم؟
هذا هو السؤال!
أما هذا الرسام فأحرى به أن يكون فنان «كذبة أول نيسان»...؟
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News