مختارات

بول شاوول

بول شاوول

المستقبل
الأحد 22 أيار 2016 - 07:22 المستقبل
بول شاوول

بول شاوول

المستقبل

ترامب يهزّ قٍيَم الحزب الجمهوري

placeholder

دونالد ترامب المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية، "مالئ الدنيا وشاغل الناس". تتعقبه من قناة إلى قناة لتشاهد شخصية مونودرامية أو عرضاَ كوميدياً بامتياز. تهريج. زقاقية.
اخلال باللياقات. مهاجمة النساء ومدام كلينتون معاً، كما بالشتائم أحياناً وبالطرائف أخرى منافسيه الجمهوريين اللذين هزمهما شر هزيمة فانسحبا من الحملة الانتخابية: سحق كروز وكاشيش سحقاً. تسونامي. محدلة. جرافة. سمها ما شئت.. تحول ظاهرة لم تر مثيلتها المنافسات على الوصول إلى البيت الأبيض. هذا الذي وُصف "بالنصاب" وزبون الكازينوهات ولاس يغاس والمطلق ثلاث مرات والملياردير الأمي، والزقاقي... خاض معركته آتياً من أمكنة أخرى غير معهودة. مفاجئة. مباغتة. لا تخلو من الاستفزاز وضياع البوصلة وضعف التصور وخربطة المنطق كأنه جاء "متمرداً" ليبرتيرياً لينتهك الاعراف والقيم التي دأب الحزب الجمهوري على بنائها منذ التسعينات. فهو مستبيح الأسس "الجمهورية نفسها" التي تلقيناها عند الرئيس بوش الابن. فلا بوش الابن. ولا الأب. ولا الأم. ولا القواعد.. لكن تاجر اللقاءات هذا، وبعيداً من هذه المواصفات يرى بعض الاختصاصيين الأميركيين ان ترامب يشكل انعطافاً تاريخياً لا سيما في بنية الحزب الجمهوري الذي بدأ يعاني تفككه وتصدعه على المستويات الإدارية والتنظيمية والإيديولوجية. وكلنا يعرف ان هذا الحزب، الأعرق، والأقدم في الولايات المتحدة (حزب لنكولن) كان قبل ربع قرن معقل "الأصوليات الدينية" المتطرفة وغير المتطرفة.. وعرين المؤمنين... والاتقياء والورعين. هكذا فمنذ بداية 1990 كان يعتبر "حزب الإيمان" وممارسة "الطقوس الدينية" ليتحول ،على قول بعضهم، "حزب الجمهورية الدينية" في أميركا.

وقد انسحبت هذه "القيم" المسيحية على الشروط التي يجب أن يطبقها كل مرشح جمهوري: "اعلان إيمانه الديني" وعلى المستوى الاجتماعي كأنما انسجام بين هذه المتطلبات ليتحول كل عمل هو من "أجل الله" وعليه. فوقوفه ضد الزواج المثلي ودعم العائلة التقليدية ومحاربة هوليوود التي اغرقت فيها القيم الاخلاقية (أي الدينية) هو جزء من برنامجه السياسي والاجتماعي. "فالله" مادة أساسية في التداول الانتخابي والفكري واليومي والطقوس "المسيحية" (البيضاء) كالصلاة يومياً... فرض واجب على كل مرشح جمهوري.

التقوى والصلاة
وإذا كان المرشح الجمهوري كروز اعلن انه سيصلي كل يوم في البيت الأبيض إذا نجح، وان الله سيكون معه في كل خطواته فليس عند ترامب من كل ذلك شيء (كما قال الباحث الان فرنشون في لوموند) . فالعائلة نفسها آخر همومه: وها هو حالياً يستمتع بزواجه الثالث وربما غداً الرابع! ومن يتابع تصريحاته "يلحظ بوضوح غياب المرجعيات الانجيلية والتوراتية"... وبدلاً من الركوع أمام مذابح الكنيسة والصلاة مع العائلة يفضل ترامب الكازينوات. لا عائلة تقليدية. ولا تدين ولا ممارسات ولا طقوس. والغريب ان تيد كروز الذي اتبع "أصول" الحزب الجمهوري، واعلن انه نموذج الأصولية المعمدانية وانه يبدأ يومه بالصلاة... لم يلق صدى أمام الجمهوري: سحب ترامب "الله" من اعلانات الحملات الانتخابية واذا كانت صلوات ابن القس كروز لم تنفعه، (وهُزم) فاز ترامب بالمقابل وللمرة الأولى "يفوز بعدد مهم من ولايات الجنوب" "هذا الحزام التوراتي" و"ارض الأصوليات المسيحية" (كما يقول فرانسوا فرشون) ما كان ليقبل قبل سنوات قليلة "ان يراهن على هذا "اليانكي" المنفلت الآتي من اضواء والعاب واستعراضات ونساء لاس يغاس. أباتت لاس يغاس في أرض الجنوب التوراتية، أم صارت هذه الأخيرة هناك؟

الفقراء وترامب
وفي عام 2008 أصدر طوماس مارك كتاباً بعنوان "لماذا يصوّت الفقراء مع اليمين؟" محاولاً فهم النجاحات المتتابعة التي يحرزها "الجمهوريون" لدى الفئات الفقيرة من عمال ومستخدمين وطبقات سفلى متوسطة؟ عندها كان الجمهوريون غيروا مواقعهم "الأساسية" وسجالاتهم وتوجهاتهم الشعبية والاجتماعية إلى صعيد "أعلى""روحي" أي قيمي. القيم الدينية هي جوهر الحزب. (نتذكر بوش الابن عندما اعلن ان الله ارسله لينقذ أميركا). وعلى هذا الأساس خاض الحزب أشرس معاركه في التصدي لموروث الستينات (التي تبناه الحزب الديموقراطي ووُضع على أساسه في خانة "اليسار" الليبرالي باسم "المحافظة" على القيم "الاجتماعية" السامية (وأميركا البيضاء طبعاً) ونقاء العائلة التقليدية كنموذج مثالي للحياة الأميركية، وادانة "الاجهاض" والحرية في استعمال السلاح الفردي ومضاعفة الموازنة العسكرية تحت العلم الأميركي كرمز للروح الوطنية المتأججة. كل ذلك "موضب" و»مُعلب» عند الحزب الجمهوري بغطاء ديني، مشحون بعداء للثقافة الليبرالية ومحاربة النخب الديموقراطية (اليسارية). نتذكر هنا المكارثية وقامة ريغان، كتعبير عن العمق "الفاشي" للجمهوريين. "معركة الأمركة الشاملة ليس لأميركا بل للعالم، ضمن المنطلقات المذكورة ملونة بالأبيض الناصع كالثلج"، وعداء "مُبهم" للسود والأفارقة مما أدخل آنئذ 1980 1990 الولايات المتحدة في انفاقها الدينية ليصير الحزب"عرين" الأصولية الانجيلية والبوريتانية المتأصلة والتعصب الشيزوفراني العنصري الأعمى.

واذا كان الحزب الجمهوري قد انقلب على قيمه التاريخية كما جسدها "لنكولن" رافع شعار "المساواة" وتحرير العبيد وارساء دستور ينصف الجميع، فالضربة جاءته هذه المرة من داخله أي من المرشح الجمهوري نفسه دونالد ترامب. انقلاب على انقلاب. وجنون على جنون وعنف رمزي على عنف رمزي. وانفصامات اجتماعية لاهوتية على انفصامات "ليبرالية". فماذا فعل ترامب في حملته الانتخابية سوى الخروج على تاريخ الحزب وقيمه ومبادئه ومعتقداته. الجمهوريون خانوا "نكولن" في 1980 1990 وترامب يخونهم في 2016. يا للمفارقة!

زمن جديد
لكن يبدو ان زماناً سياسياً جديداً، يفاجئ الجمهوريين (والديموقراطيين معاً). واذا كان ترامب قد وضع في خانة الغباء والتهريج والأمية إلاّ انه لا يمكن الا يكون قد لَحَظ أو حَدَس تحوّل الرأي العام الأميركي وفئات اجتماعية عدة، التي شعرت بدورها بأن "العولمة" التي بنت عليها الآمال هي التي همشتها "وكذلك التطور الليبرالي اليساري للمجتمع" باعتبارهما فتحا من جديد باب "الهجرة"... إلى بدء وعي دور "وول ستريت السلبي عليها. (نتذكر التظاهرات الشبابية ضد وول ستريت).. فأولوياتها الجمهورية القيمية، والروحية واللاهوتية والدينية كأنما بات وراءها واخيراً استفاق الحس الاجتماعي على حساب الإيمان التجريدي. من هنا بالذات استمد قوته ترامب، وتجرأ على تحطيم تلك القيم التي رفعها الحزب منذ الثمانينات والتسعينات. هذه هي الأولويات الجديدة التي باتت تتحكم بالهوى الشعبي لتعلن عبر تأييدها لابن لاس يغاس، انها مع الخيارات الاجتماعية أكثر مما هي مع القيم الحزبية. انه أكثر من تمرد، وقد يتجاوز في المستقبل دونالد ترامب والحزب معه ليطاول مختلف الطبقات والفئات.. فالشك بالعولمة تململ عند الناس، قبل أن يصل إلى ترامب (وإلى المرشح الديموقراطي ساندرز) ومسألة التبادل الحر المنوط به أدخلت أميركا في انهيارات كثيرة. وعلى هذا الأساس طالب ترامب بطرد 11 مليون عامل لاتيني غير شرعي إلى أميركا ومنع المسلمين من دخول أميركا... أتكون عنصرية؟ نعم! أتكون مادة انتخابية للتداول؟ نعم! أتكون مطالبة بإقامة جدار على الحدود الجنوبية منعاً لدخول المكسيكيين وسواهم؟ نعم! لكن كل ذلك قد يكون أيضاً من رواسب الجمهوريين بظواهرهم العرقية البيضاء وبأميركاهم "البيضاء" أيضاً. ولهذا، فالنقاط التي أوردنا شكلت افتراقاً معلناً وسافراً على نهج الحزب الجمهوري الذي وجد ان توجهاته "القيمية" الاجتماعية والدينية المحافظة قد سبقها المجتمع.

.. وساندرز أيضاً
واذا كان ترامب قد احتفظ بشيء من ارث الحزب الجمهوري على طريقة 1990: معاداة النخبة واليسار ومسألة الأقليات إلا انه انفصل عنه في النظر إلى "وول ستريت" وهذا يضعه في موقف نقيض للحزب. ورفضه التبادل الحر كما يقول مايكل لينو "يضعه إلى جانب الشرائح البيضاء" وهنا بالذات يمكن فهم قوة الترامب (الشعبوي) في انتقال هذه الشرائح من المزامير الالهية والقيم الدينية إلى ما هو محسوس. فهذه الجماهير لم تنسحر لا بوسامة ترامب ذي البرونزاج الكهربائي ولا بشعره الحرير ولا ببياض بشرته، ولكن لأنه التقاها على منعطف كراهية "العولمة" وول ستريت، وهذا يعني ان ترامب اخرج "الله" كمادة شعارية من السجال السياسي (كما كانت الحال في 1980 1990) ليفتتح عصر "جمهوريين" آخر. (كما قال ادوار دوبوري في نيويورك تايمز) فقد الدين دوره المهم في الحياة السياسية لكن ليخلي دوره لخطاب شعبوي جديد يركز على الاقتصاد والاشمئزاز من الطبقات السائدة!

انها بداية مرحلة جديدة؟ نعم! على صعيد الحزب الجمهوري؟ نعم! وأكثر من ذلك. فساندرز المرشح الديموقراطي ظاهرة أخرى يواجه بشعارات تلتقي ترامب أحياناً، وتختلف معه غالباً؛ المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون ابنة السلطة والمؤسسات المالية... لكن ساندرز آت من أمكنة أخرى، لا من يغاس ولا الكازينويات ولا تعدد الزوجات بل من فكر اشتراكي وان ملتبساً في غمرة مناخ الحزب الديموقراطي. فهو التقط أيضاً هاجس الشباب الأميركي سواء من مظاهرات وول ستريت الاجتماعية أو من الحس الشعبي الذي خلفته العولمة وفساد الطبقة السياسية (وهو منها) واستغلال فئة صغيرة الرأسمال الوطني وازدياد نسبة الفقر في أميركا. وهذه الفئات السفلى والمتوسطة (المتراجعة اقتصادياً) تجاوزت الزامات الحزب الديموقراطي نفسه ورموزه وقيمه لتجد في ساندرز رديفاً لها من الداخل في منحاها الاحتجاجي، ازاء العولمة، وضمور دور أميركا في العالم لكن خارج شعارات معاداة الأقليات الاسلامية أو الافريقية أو اللاتينية. بل ان هذه الفئات في تمهيداتها لتغييرات ما على صعيد اصطدامها بالمطالب وأوضاع الناس، كأنما تعلن انتماءها لما هو مختلف من دون ان تحدد فعلاً ملامحه الواضحة. شعرت أن الحزب الديموقراطي برموزه وقيمه التاريخية المفتوحة والليبرالية لم يعد يلبي متطلبات الحاضر ولا المستقبل.. لأنه استنقع في أفكاره واستوحل في شعاراته وغرق في الزامات العولمة التي لم تعد تؤمن بها... كخشبة خلاص لتحسين أوضاعها بل بسبب لما تعانيه من احساس بالخيبة ومعاناة للفقر وزيادة في تمادي العنصرية.. من هنا قواسم مشتركة بين من خرج من الجمهوريين على قيم الحزب الجمهوري ونظيرهم بعض من خرج على مبادئ الحزب الديموقراطي أدت إلى اختلاط الناخبين على مطالب متبادلة في رأسها مساوئ العولمة والحاجات الاجتماعية... كل بحسب ظروفه.

لكن ما يمكن ملاحظته ان ترامب أزاح "الدين" من أجندة الانتخابات ليحُل محلها الشعبوية وان ساندرز واجه منافسته الديموقراطية، بنقد لها وللمؤسسات لكن وقع أيضاً في نوع من الشعبوية. الناحية الأخرى ان نبرة مؤيدي ترامب وساندرز اتسمت بالعنف اللفظي وصولاً إلى العنف المادي: فقد اعتدى مناصرو ترامب على بعض مؤيدي كلينتون وهاجم مناصرو ساندرز بعض مواقع الاقتراع بعد اعلانها فوز كلينتون في احدى الولايات. ومثل ردود الفعل هذه وان محدودة توحي ان كل شعبوية رمزية لا بد من ان تؤدي إلى نوع من العنف. (هذا ما سبق ان شهدناه في احتجاجات وول ستريت وما نشهده حالياً في فرنسا عبر لجوء المتظاهرين "دوبو لاندي" إلى الاشتباك مع الشرطة واستخدام الحجارة وتحطيم السيارات)... ما نريد ان نقول انه ترامب، ابن لاس يغاس فجر قيم الحزب الجمهوري من داخل أسسه وان ساندرز هز! مبادئ وتوجهات الفئة المسيطرة على الحزب الديموقراطي.

أتراها غيمة انتخابية أم ملامح تغيير في الواقع السياسي الأميركي؟

تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة