اجتاز لبنان قطوعاً خطراً ولم تنجح هجمات القاع الإرهابية المجرمة في ان تنال من امنه واستقراره بالرغم من الخسارة الكبيرة التي منيت بها هذه البلدة الحبيبة نتيجة سقوط خمسة شهداء ابطال من ابنائها الميامين.
كان يمكن لهذه الهجمات ان تنسف الإستقرار اللبناني الهشّ وينتج عنها تداعيات شديدة الوطأة لولا تضافر جملة عوامل اولها صمود اهالي القاع الابطال الذين لن يتركوا ارضهم تحت اي ظرف ولن ينال منهم اعتداء مجرم او ترهيب، وثانيها جهوزية الجيش اللبناني البطل وتأهبه الدائم للدفاع عن الأرض والشعب.
التضامن مع القاع يكون بدعم صمود ابنائها ..
مما لا شكّ فيه ان الوحدة الوطنية عامل مهم في حصر الأضرار ودرء المخاطر، وان الجبهة الداخلية المتماسكة والمتراصة هي الصخرة التي تتكسّر عليها كل الإعتداءات والمؤامرات.
ومع تقديرنا لما اظهره اللبنانيون من تضامن وتعاطف مع بلدة القاع البطلة في محنتها وتجربتها المرّة وما اظهرته القوى السياسية على مختلف طوائفها ومذاهبها من موقف وطني مشترك يعكس ارادة التصدي للإرهاب وادراكاً كاملاً لخطورته وتهديده.
لكن ما نأمله الاّ تقف حالة التضامن من الطبقة السياسية عند المظاهر والشكليات والتصريحات المنمّقة، بل المطلوب ان تكون هناك ترجمة عملية عاجلة لهذا التضامن عبر خطوات تهدف الى تثبيت الناس في ارضهم ودعم صمودهم.
وهذه مسؤولية الحكومة والطبقة السياسية الحاكمة بدءاً من الهيئة العليا للإغاثة التي يجب ان تصرف التعويضات للمتضررين في اقصى سرعة ممكنة وان تعامل القاع اُسوة بمناطق اخرى شهدت جرائم ارهابية مماثلة، مروراً بسائر المؤسسات والإدارات التي تقع عليها مهمة اقامة البنى التحتية ومرافق الخدمات الأساسية في القاع المحرومة من ابسط حقوقها وصولاً الى الأجهزة القضائية والأمنية التي عليها حماية بلدة القاع من المخالفات والتعديات على اراضيها ومن المخاطر والتهديدات الأمنية.
سذاجة وسخافة انتقادات "الامن الذاتي"..
ان تقديرنا للحالة التضامنية مع القاع لا يلغي افتقادنا وانزعاجنا من شوائب اعترت ردّات الفعل وادّت الى تحويل الإتهامات والأنظار عن المشكلة الفعلية والأساسية الى اتجاهات وامكنة اخرى هامشية.
ما يدعو الى الأستغراب والأستهجان ان تسلّط كمية كبيرة من الأضواء السياسية والإعلامية على ما سُميّ "الأمن الذاتي" وان يتم اهمال الخطر الداهم المتمثل بالإرهاب والهجمات الإنتحارية وان يتم تجاوز الأفعال والأسباب للتركيز على النتائج وردود الفعل.
فهل من المعقول والمقبول ان نلوم اناساً حملوا السلاح دفاعاً عن النفس والأرض والعرض في حين يجب ان نقوّي عزيمتهم ونشدّ على ايديهم لأنهم اثبتوا تمسّكاً ببلدتهم ورفضوا مغادرتها وتركها للفراغ والمجهول؟ هل يُعقَل ان ظهور بضع قطع من سلاح فردي في يد مواطنين هبوا للدفاع عن ارضهم يصبح هو الحدث؟
وكيف يمكن لعملية دفاع مشروع عن النفس فرضتها العملية الإرهابية الغادرة ان تتحول الى نواة لمشروع ميليشياوي مهدِّد لسلطة الدولة وهيبتها؟
كل ما صدر من انتقادات واتهامات في هذا المجال ليس في محله ويُعد خطأً جسيمآ لا بل جريمة، لأن ابناء القاع لم يقوموا الا بما دعا اليه الواجب المقدّس في الدفاع عن عائلاتهم ووجودهم وارضهم وعرضهم خلف الجيش اللبناني وتحت رعايته وامرته.
وما فعله اهل القاع وما سيفعلونه كل مرة واجهوا تهديداً، هو ما يفعله المسيحيون في كل لبنان لناحية علاقتهم مع الدولة والتزامهم القوانين والأصول والتحرك تحت سقفها وفي اطار المؤسسات الشرعية.
المسيحيون ومشروع الدولة..
المسيحيون ما كانوا يوماً الا مدافعين عن مشروع الدولة ولم تكن لديهم مشاريع خاصة وذاتية، وما جرى في القاع هو آخر نموذج صادم للمسيحيين الذين سئموا هذا النمط من التعاطي معهم وما عادوا يقبلون باستمراره، فهم اذا بادروا في لحظة تخلي الدولة عنهم عن تقصير او تلكؤ او اهمال الى الدفاع عن انفسهم اتُهِموا بممارسة "الأمن الذاتي" وخدش سلطة الدولة وهيبتها.
ما جرى في القاع ومعها اخيراً، جرى الكثير منه على المستوى السياسي والوطني في السنوات الأخيرة، فالمسيحيون اذا طالبوا بتطبيق كامل وعادل لإتفاق الطائف يحفظ دورهم وحقوقهم ومصالحهم بدءاً من قانون انتخابات جديد ولا مركزية ادارية موسعة فإنهم لا يجدون اذاناً صاغية وتُقابل طلباتهم بعدم اكتراث حتى لا نقول باستخفاف وازدراء، واذا طرحوا صيغاً ومشاريع يرون فيها ضمانة وحماية لهم متيقّنين بان النظام الطائفي المركزي يعتريه خلل فاضح في التوازن وتكافؤ الفرص والحقوق ولا يلبّي الطموحات والتطلعات فإنهم يُتهمون بحمل مشاريع وافكار تقسيمية وان مشروعهم ليس مشروع العبور الى الدولة وانما الى مشاريع "الحكم الذاتي". ان التجارب والوقائع في كل المراحل وعلى الأقل في مرحلة السنوات العشرة الأخيرة اثبتت ان المسيحيين هم اول من رفع لواء مشروع الدولة واكثر من انخرط في تحالفات وطنية عابرة للطوائف واكثر من التزم باتفاق الطائف بينما كان الآخرون يُمعنون في خرق هذا الإتفاق نصّاً وروحاً.
لنقل الأمور بصراحة متناهية المسيحيون كانوا ينتظرون ويتوقعون تغييراً جذرياً في نمط التعاطي معهم بعد خروج الوصاية من لبنان يُعيد اليهم حقوقهم المصادرة والمهدورة، ولكنهم وجدوا ان هذا التغيير لم يحدث وان ما كان ايام الوصاية استمر بعدها كما لو ان شيئاً لم يتغير وكما لو ان شركائهم في الوطن التي في يدهم زمام الحل والربط قد اعتادوا على هذا الواقع او "استطابوه" وهم ليسوا راغبين في التخلّي عما اعتبروه مكتسبات حصلوا عليها بقوة الأمر الواقع.
ولأن هذا التغيير لم يحدث فأن المسيحيين اصيبوا بالصدمة والخيبة ولكنهم لم ييأسوا ولم يستسلموا وسيظلون يبحثون عن طرق وافكار ومشاريع تكفل لهم استعادة دورهم وتعزيز حاضرهم وتأمين مستقبلهم.
المسيحيين لن يتردّدوا في الدفاع عن انفسهم وعن وجودهم ومستقبلهم..
في الختام وبصراحة نقول ان المسيحيين ما عادوا يتقبلون استمرار المعاملة التي لاقوها ايام الوصاية وما كانوا فيها من تهميش واستضعاف وقهر واجحاف، وما عادوا يتقبّلون الذرائع والمبررات والحجج لأي اخطاء واساءات في حقهم. وهم عقدوا العزم على تصحيح المسار وتقويم الإعوجاج.
فإذا لم يُعطَوا حقوقهم ولم تُصَن مصالحهم، فإنهم لم يعدموا وسيلة للحصول عليها، واذا لم يشعروا ان الدولة تحميهم ووجدوا ان امنهم مهدّد ووجودهم في خطر فإنهم لن يتردّدوا في الدفاع عن انفسهم وعن وجودهم ومستقبلهم، ومن له اذنان صاغيتان فليسمع.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News