وميضٌ في السماء. إنّها الساعة الثامنة مساءً. نهارٌ ثالث يَقفل على قلق. مِن الجو، مِن البحر، مِن كلّ الجهات كانت حِمَم الموت تنهمر.. وقد بلغت القلوب الحناجر.
هنا الضاحية الجنوبيّة لبيروت. وميضٌ، شوهد مِن مُحيط المطار، كعفريت خرج مِن فانوسه، تراقص مُرتفعاً، ثمّ طار مبتعداً.
إنّه الصاروخ الذي سيُحفَظ مكانه في التاريخ. حصل للبعض أن شاهد ما جرى وكان، في تلك الليلة، في الوقت عينه، في اللحظة نفسها، يستمع لاتصال السيّد حسن نصر الله، هاتفيّاً، بقناة «المنار». كان البثّ حيّاً. الآن وهنا: «المفاجآت التي وعدتكم بها سوف تبدأ مِن الآن. الآن، في عرض البحر، في مُقابل بيروت، البارجة الحربيّة العسكريّة الإسرائيليّة، التي اعتدت على بُنيتنا التحتيّة، وعلى بيوت الناس، وعلى المدنيين، انظروا إليها تحترق، وستغرق ومعها عشرات الجنود الإسرائيليين الصهاينة. هذه البداية، وحتى النهاية، كلام طويل وموعد».
كان ذلك قبل عشر سنوات. لم يكن أكثر أهل الضاحية قد غادروا منازلهم بعد. تكبيرات، هتافات، صلوات، أهازيج... راحت مِن كلّ ناحية تخترق النوافذ. أصوات مشحونة حماسة، غضب، خنقها القلق نهارات ثلاثة، والآن ستنفجر فخراً.
كثيرون نزلوا إلى الشارع. لِمَ؟ لا تسل. إنّ لـ«الأدرينالين» في ذلك شأناً. يَنظرون في وجوه بعضهم بعضاً. نحن بخير. لم نَمُت. لقد أُصيبت البارجة الإسرائيليّة، سنُقاوم، هذه هي، وقد وعدَنا السيّد: «ذاهبون إلى الحرب المفتوحة... والنصرُ آتِ».
ستكون كلّ إطلالات نصر الله التلفزيونيّة، وتصريحاته الإعلاميّة، على مدى الـ 33 يوماً، بمثابة «السلاح الاستراتيجي» الذي أعيا الإسرائيليين. السلاح «الكاسر للتوازن» الذي لم يكن لهم ضربه. تِسع كلمات مُتلفزة للسيّد، مقابلة واحدة مع فضائيّة وأخرى مع صحيفة، كانت كلّ مِنها تُساوي «معركة وعي» تُحسم لصالح المقاومة. ذلك إلى جانب معارك الميدان، وصواريخ طالت ما بعد حيفا، ضمن حرب ستَحفُر عميقاً في الوعي الإسرائيلي، حفظوها باسم... «حرب لبنان الثانية».
لاحقاً، وضمن تحقيقات لجنة «فينوغراد» في نتائج الحرب، سيقول شيمون بيريز، وهو الأيقونة الإسرائيليّة الباقية، إنّ: «الحرب انطوت على هزيمة نفسيّة كبيرة جدّاً، وهذه الهزيمة نشأت عن أن حزب الله تباهى بناطق لا تعوزه الكفاءة، هو أمينه العام حسن نصر الله». ويضيف صاحب «نوبل للسلام»، وصاحب مجزرة قانا الأولى، بكثير مِن الموضوعيّة والوضوح، قائلاً: «الأقوال والكلمات في الحرب هي قنابل أيضاً. نحن كان لدينا جوقة. لدينا الكثير مِن الناطقين ولكنهم ليسوا خطباء، لا يَعرفون كيف يُفسّرون الأمور». لا بُدّ أن بيريز يعرف ديموستين، خطيب أثينا الأشهر، الذي قاد حرباً كلاميّة في وجه الإسكندر المقدوني، ووالده فيليب قبله، حفظها التاريخ، مانحاً شعبه معنويّات هائلة... إلا أن بلاده في النهاية هُزمت. يعرف بيريز، تحديداً، أن نصر الله لم يُهزم، وأنّه لم يكن خطيب الحرب فقط، بل زعيماً سياسيّاً أيضاً، عرف كيف لا يخسر، ثمّ هو، في الوقت عينه، القائد العسكري الأوّل في حزبه. ثلاثة في واحد، في رجل، في أحلك لحظة وجوديّة. قلّما عرف التاريخ هكذا نموذج. أمثال بيريز يعرفون ذلك.
قبل أكثر مِن 23 قرناً، خطب ديموستين في شعب أثينا، قائلاً: «ربّما كان فيكم من تُرهبه عظمة فيليب وقوّة جيشه، وكثرة بطشه، فيظنّه لا يُقهر. لكن لو أن فيليب فكّر كما نُفكّر نحن اليوم وقال لا طاقة لي على محاربة الأثينيين، لما أقدم على عمل، لكنّه عرف أن الفوز للجَسور دون سواه». كان في لسان ديموستين لُثغة، وفي لسان نصر الله مِثلها. الأوّل أحد أشهر خطباء التاريخ، لكنّه، في نهاية الأمر، مجرّد خطيب. أما الثاني، فقد أُوتي فصل الخطاب، إلا أنّه أكثر مِن ذلك. عدو الأوّل نجح في نفيه خارج البلاد، بعد هزيمة، وعدو الثاني أراد ذلك، تماماً، لكنّه فشل. لم يُهزم نصر الله. لم تُهزم المقاومة. هنا كلّ الحكاية. عقد مِن الزمن مضى... ويبقى للتاريخ شأنه.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News