يحق للناس ان يطالبوا وبإلحاح بإنتخاب رئيس للجمهورية ومن الطبيعي ان يتمسكوا بأدنى مؤشر تفاؤل و"بحبال الهوى" كما يُقال، وان يراهنوا على حدوث اختراق وتقدم على هذا الصعيد وان يعوّلوا على الجهود والمساعي والمبادرات والتي كان آخرها مبادرة رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري من خلال المشاورات التي اجراها في الداخل والخارج والبحث عن حلول ومخارج لهذه الازمة التي طالت كثيرآ.
لكن وفي المقابل لا يجوز اغراق الرأي العام اللبناني في تفاؤل مبالَغ به وتحديد مواعيد وسقوف زمنية لذلك، ومن غير المقبول إلحاق الخيبة والإحباط مجدداً بهذا الشعب الصابر والصامد، وانما يجب مصارحته ومكاشفته بالواقع وحقيقة الامور.
انطلاقآ من كل ذلك ساتحدث بكل شفافية وواقعية لاقول :
ان الأسباب والظروف التي منعت انتخاب رئيس جمهورية منذ صيف 2014 وحتى اليوم ما تزال قائمة ولم تتغير، وهذا يعبّر عن ازمة معقدة ابعد ما تكون من خلاف بين القوى السياسية حول اسم هذا او ذاك من المرشحين المحتملين للرئاسة، انها ازمة عميقة ومتداخلة في خيوطها وعناصرها الطائفية والمذهبية اقليميآ وداخليآ.
اقليميآ ...
اولآ: من خلال الصراع المتفاقم بين "السعودية وايران"، هذا الصراع الذي يدور على مساحة واسعة من ارض هذه المنطقة بين اكبر دولتين اقليميتين "سنية وشيعية" والذي له انعكاس كبير على الداخل اللبناني من خلال طائفتين اساسييتين حليفتين للدولتين المذكورتين ولهما التأثير والنفوذ على قراره السياسي.
ثانيآ: من خلال الحرب السورية المستعرة التي فشلت كل المحاولات في وقفها ووضعها على سكة الحل السياسي، هذه الحرب التي تكبر وتتّسع وتتشعب بإنضمام وتورّط اطراف دولية واقليمية وداخلية فيها.
من هنا من الطبيعي ان يكون لبنان واقعاً تحت تأثيرات وانعكاسات هذه الحرب، وان لا تقتصر هذه الإنعكاسات على امنه واستقراره الإجتماعي والإقتصادي فقط تحت وطأة النزوح السوري الكبير، وانما لتشمل ايضآ استقراره السياسي في ضوء الترابط القائم بين الساحتين اللبنانية والسورية وحيث ان مستقبل لبنان يتحدد الى درجة كبيرة في ضوء مستقبل سوريا السياسي، ولذلك فإن جزءاً كبيراً من عملية تجميد الوضع في لبنان وإبقائه في ثلاجة الانتظار بما في ذلك الملف الرئاسي له علاقة بما ستؤول اليه التطورات في سوريا على المستويين العسكري والسياسي.
داخليآ ...
واذا اردنا ان نكون واقعيين اكثر ونضع كل المؤثرات والعوائق الإقليمية جانباً ونحصر بحثنا في العوامل والأسباب الداخلية البحتة التي منعت حتى الآن انتخاب رئيس للجمهورية ونسأل بعد كل هذا الفشل الداخلي المتراكم عن السبب والسر في ذلك، وعن جوهر الأزمة وحقيقتها الداخلية المانعة لأي تقدّم سياسي وانتخاب رئيس نقول ودون مواربة :
ان في لبنان نموذج مصغّر للصراع "السنّي الشيعي" في المنطقة، لكن الفرق ان هذا الصراع "منظم" تحت سقف الحوار الثنائي بين "المستقبل وحزب الله"، وان الصراع الحقيقي يدور بين هذين الفريقين على السلطة والحكم والدولة.
- فريق وهو "السنة" يسعى الى تثبيت وتكريس مكتساباته وما حصل عليه من وضع متقدم بفعل "اتفاق الطائف".
- وفريق آخر وهو "الشيعة" يسعى الى تحسين موقعه ودوره معتبراً ان ما اعطاه ايّاه "الطائف" لم يعد متناسباً مع حجمه الواقعي في الوطن.
السنة ...
السنّة في لبنان يسعون لانتخاب رئيس للجمهورية وهم جادون في ذلك وهم يتحركون في هذا الاتجاه عبر رئيس تيار المستقبل ( الحزب الذي يحظى بالتأييد الاوسع لدى الطائفة السنية) لأنهم يريدون ضمان واستقرار الوضع لست سنوات قادمة وهذه فترة زمنية يمكن ان تنقشع فيها الرؤية الإقليمية وتتّضح التسويات وتتحدّد الأحجام وبعدها "لكل حادث حديث"، لذلك فإن السنة يراهنون على عامل الوقت للحفاظ على مكتسبات الطائف ، من هنا فان "لعبة الوقت" التي يريدونها تحتاج الى وضع داخلي مستقر في اساسه انتخاب رئيس جمهورية وانتظام عمل الدولة والمؤسسات.
الشيعة ...
الشيعة في لبنان يخشون من عامل الوقت ولا يحتملون ست سنوات اضافية مع رئيس جمهورية جديد لا تضيف شيئاً الى وضعهم ولا تغيّر فيه الى الأمام، وهم يعتبرون انهم اذا كانوا اليوم في افضل حال ولديهم القوة العسكرية والمالية والحليف الإقليمي "ايران" ولديهم "حزب الله وحركة امل" ( الحزبين الذين يحظيان بالتأييد الاوسع لدى الطائفة الشيعية) وبالرغم من كل ذلك هم يشعرون ان ليس لديهم في الدولة والحكم اكثر من حق الفيتو والقدرة على الرفض والتعطيل وليس القدرة على المشاركة في القرار السياسي حسب ما اعطاهم دستور "الطائف"، وهم يسألون كيف سيكون الحال بعد ست سنوات ومن يضمن حتى ذلك الوقت بقاء عناصر القوة الحالية واستمرار الرئيس نبيه بري في موقعه كرئيس للمجلس النيابي والسيد حسن نصرالله و"حزب الله" في قوتهما العسكرية والسياسية الحاليتين، من هنا فإن "الشيعة" يريدون "ضمانات مكتوبة" عبر الدستور تكّرس لهم وضعاً جديداً في الدولة والحكم وتطمئنهم الى مستقبلهم السياسي ودورهم في ادارة الدولة وفي صناعة القرار الوطني.
المسيحيون...
المسيحيون عبر قواهم واحزابهم السياسية، ووسط هذا الصراع "السني- الشيعي"، يجب ان يكون دورهم دور الوسيط النزيه والمتوازن لإحتواء الصراع وإطفاء ناره والتقريب بين طرفيه.
وكذلك هم مَدْعُوُّونَ الى عدم افتعال معارك سياسية وهمية لا بين بعضهم البعض ولا مع شركائهم في الوطن، وان لا يقعوا في فخ تحويل ازمة الرئاسة الى صراع سياسي مع اي من الفرقاء الآخرين.
المطلوب من المسيحيين لم شملهم وتوحيد صفوفهم ومواقفهم وتحديد ما يريدون على مستوى دورهم ووجودهم ومشاركتهم في القرار السياسي اللبناني وحجز مقعد لهم على طاولة التسوية عندما تحين، حتى لا يجلسوا في المقاعد الخلفية او خلف هذا او ذاك.
في الخلاصة والختام وبالعربي الدارج اقول " ما في رئيس" اقله في المدى المنظور... هذه هي الحقيقة بعينها، وكل ما نشهده من تحركات واتصالات ما هو الا محاولات وتجارب.
المشكلة ليست في اسم الرئيس، ولا بتحالفاته، ولا بقدرته التمثيلية، المشكلة اكبر من ذلك بكثير وهي مرتبطة بالصراع بين فريقين لبنانيين اساسيين ومن ورائهما اقليميآ على السلطة والمشاركة في الحكم، وبالتنازلات السياسية والدستورية التي يمكن ان يعطيها "السنة للشيعة" ونقطة على السطر.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News