"ليبانون ديبايت" - يوسف ي. الخوري، استاذ جامعي ومخرج سينمائي
"مجزرة الدامور نكتة أمام ما حصل في صبرا وشاتيلا"... فلما التمييز بين المجزرتين طالما أنّ مرتكبهما هو نفسُه؛ "الفلسطينيون وأعوانهم؟!".
أخبرني مرةً الآباتي شربل القسيس في محادثة خاصة بيننا الواقعةَ التالية:
"لما احتل الفلسطينيون دير مار جرجس الناعمة عام 1975 ثمّ أُجبروا على الخروج منه نتيجة ضغوط كبيرة قمت بها، توجّهت إلى المكان للاطلاع على حقيقة الوضع، فوجدت أن قسمًا من الدير تمّ حرقه، وأن موجوداته بُعثرت وسُرقت. وبينما كنت أجول في أرجائه وقع نظري على ورقة ممزوقة نصفين، فتناولتها عن الأرض وقرأتها، وإذا بتاريخها يرجع إلى العام 1948 وكانت قد أُرسلت من رئيس عام الرهبانية الأب يوحنا العنداري إلى رئيس دير الناعمة الأب اغناطيوس أبي سليمان يطلب منه فيها تعليق دروس المبتدئين – كان دير الناعمة مركزًا للمبتدئين - وفتح أبواب الدير لاستقبال الأطفال الفلسطينيين المشرّدين من بلادهم. يومها كنت مبتدِئًا في هذا الدير وتعاونت مع إخوتي الرهبان على تأمين الظروف المعيشيّة الملائمة لكل هؤلاء الأطفال".
دمعت عينا الآباتي قسيس، ثمّ تنهّد تنهيدة طويلة متابعًا الكلام بحسرة وهو يقول: "آآآآخ لو يعرف هؤلاء الفلسطينيون ماذا مزّقت أيديهم!".
بالكاد مرّ شهران على حادثة الناعمة أعلاه، حتى ارتكب الفلسطينيّون بمؤازرة أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية مجزرةً في بلدتي الدامور والجيّة القريبتين، حيث راح ضحيّتها 582 شهيدًا من المدنيين الأبرياء، وهُجِّر عشرات الآلاف من الأهالي المسيحيين الذين هربوا بحرًا إلى مناطق آمنة شمال بيروت. لا داعي للتوقّف عند هذه المجزرة "النكتة" كما يُسَر ناشطو اليسار اللبناني بوصفها، لأن الانتهاكات الوحشيّة التي مورست خلالها من حصار، وتجويع، وانتهاك للحُرُمات، وتهديم للكنائس، ونحر للأطفال والمسنّين، واغتصاب للنساء، كلها مُثبتة وموّثّقة ولا أحد يُنكرها، لا بل المعتدي حينذاك غير محرج من نتائجها، ويُفاخر بها ويقلّل من أهمّية الجريمة إلى درجة اعتبارها نكتة!
عام 1982، لم تكن مجزرة صبرا وشاتيلا التي حصلت غداة اغتيال الرئيس بشير الجميّل بحقّ فلسطينيين ومواطنين شيعة لبنانيين، أقل فظاعة! أمّا ما تختلف به هذه المجزرة عن مجزرة الدامور، فهو أنّها استُغِلّت إعلاميًّا بشكل عشوائي حجب الحقيقة القاطعة حولها لكثرة ما تمّ التداول بأخبار متضاربة عنها. فعن المنفّذين هناك مَن يقول إنّهم الكتائب، ومن يقول إنّهم القوات اللبنانية. شهود عيان يؤكّدون أن طائرة هليكوبتر إسرائيلية أنزلت أربعة ضباط من جيش لبنان الحر في مطار بيروت ليلة المجزرة وتوجهوا مباشرة إلى صبرا وشاتيلا. مراسلة التلفزيون السويدي ادّعت أنّهم الإسرائيليون لأنّهم كانوا يعتمرون قلانيس مُخرّمة!!
في الموازاة؛ برّأت جريدة السفير الكتائب في عددها الصادر بتاريخ 19 أيلول 1982، إذ ورد على متن صفحاتها: "سكان بيروت الغربيّة لا يُلقون المسؤوليّة على الكتائبيين". صائب سلام صرّح: "ليس للكتائبيين صلة بهذا الأمر" (André Botar – L’Express, Nov. 1982 ). القوّات اللبنانية بقيادة فادي افرام استغلّت إشاعة وجود عناصر من جيش لبنان الحر وعملت على التوسّع بنشرها، ما دفع بالناطق باسم الجيش الإسرائيلي إلى نفي هذا الخبر قائلًا: "إن كل الأخبار المتعلّقة بوجود رجال سعد حدّاد في المخيّمات لا أساس لها" (Alain Ménargues - Les secrets de la guerre du Liban, p. 493).
إن عدد الضحايا جرّاء هذه المجزرة أثار لغطًا حوله أيضًا، إذ لم يتفق مصدران اثنان على نفس الرقم، ويكفي القارئ أن يستخدم محرّك البحث Google باحثًا عن حصيلة القتلى في مجزرة صبرا وشاتيلا ليقع على عشرات التقارير والأرقام التي تبدأ من 400 قتيل وصولًا إلى 13000 و 15000 قتيل، حتى أن لجنة كاهان الإسرائيليّة التي كُلّفت بالتحقيق في القضيّة لم تتوصل إلى رقم نهائي لحصيلة القتلى، إذ جاء في تقريرها: "تراوح عدد الضحايا بين 460 و 700 إلى 800 قتيل. مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة آنذاك القاضي أسعد جرمانوس يقول إن عدد القتلى 460، وهذه المعلومة سمعتها شخصيًّا منه بعد أن اختفى تقريره حول هذا الموضوع!
إن أي بحث في ما حصل بين 16 و 18 أيلول 1982 في صبرا وشاتيلا، لا بد وأن يرتكز على حقائق ثابتة للانطلاق به، وما بين أيدينا إلّا حقيقتان مؤكدتان هما أن هناك مجزرة حصلت بحقّ أبرياء، وأن تقرير مفوّض الحكومة القاضي أسعد جرمانوس تبخّر واختفى بعدما رُفعت منه نسخة إلى الرئيس الأسبق أمين الجميّل وأخرى إلى رئيس جهاز الاستخبارات في الجيش اللبناني جوني عبده.
حقيقة ثالثة لا يُمكن اخفاؤها بالرغم من محاولات تغطيتها وهي أن عناصر تابعة لجهاز الأمن في القوات اللبنانية الذي يرأسه ايلي حبيقة نفّذت اعمال التصفيات، وهو الأمر الذي يؤكّده المرافق الشخصي لحبيقة والمقرّب من آرييل شارون روبير حاتم (كوبرا)، في كتابه From Israel to Damascus، ويؤكّده Alain Ménargues في كتابه Les secrets de la guerre du Liban، كما بالإمكان استنتاجه من تقرير كاهان الذي حمّل مسؤولية غير مباشرة لشارون في المجزرة المرتكبة. والمقصود بالمسؤوليّة غير المباشرة هو أن شارون قد يكون غضّ النظر لتسهيل ارتكاب المجزرة، أو أوعز إلى فريق ما بارتكابها، لكن المتابع لمجريات الدعوى التي رفعها شارون في نيويورك ضد مجلّة الـ Time عام 1985، يتأكّد أن المعنيين بارتكاب المجزرة هم القوات اللبنانية.
فشارون اتّهم الـ Time بالتشهير به في عددها الصادر في شباط 1983 حين كشفت عن ملحق سرّي لتقرير لجنة كاهان يُفيد بأنّه حين زار شارون بكفيّا للتعزية ببشير الجميّل، تحدّث أمام أفراد من العائلة عن "ضرورة الثأر لمقتل بشير". المحاكمة خيّم عليها الجو التالي: إذا فاز شارون تكون القوات بقرارها الذاتي هي مَن ارتكبت المجزرة، وإذا فازت الـ Time يكون شارون هو مَن أوعز للقوات بتنفيذ المجزرة.
إذًا كيفما برمت تكون القوات اللبنانية هي من ضغطت على الزناد! لكن لماذا بهذا الأسلوب الذي أشعل القنوات الإعلاميّة والديبلوماسيّة العالميّة والمحلّيّة؟!
بعد انسحاب منظمة التحرير الفلسطينيّة والجيش السوري من بيروت الغربية نتيجة الحصار والحرب اللذين شنّهما الإسرائيليون ضد هذه المنطقة، ومن ثمّ انتخاب بشير الجميّل رئيسًا واغتياله فيما بعد، تحوّل الاهتمام إلى ضرورة إبعاد مَن تبقّى من فلسطينيين في بيروت الغربيّة وكان عددهم لا يتجاوز الآلاف القليلة.
الجيش الإسرائيلي الذي أحكم السيطرة على المنطقة الغربيّة من بيروت بأقل من ثلاثين ساعة بعد مغادرة المنظّمة، لم تشأ قيادته التورّط بعملية الإبعاد، فأصدر رئيس أركانه رافائيل ايتان أمرًا رقمه 6 يمنع فيه الجيش الإسرائيلي من دخول المخيّمات، مشيرًا إلى أن عمليّة "تنظيف" مخيّمي صبرا وشاتيلا ستكون على عاتق الكتائب و/أو الجيش اللبناني.
الجيش اللبناني بدوره لم يتورّط، ولم يبقى إلا القوات اللبنانية. فادي افرام قائد هذه القوات، نقل المهمّة إلى رئيس استخباراته ايلي حبيقة باعتبار أن هذه المهمّة ليست عسكرية وهي من اختصاص جهازه، ولم يوضح أحد مباشرة لحبيقة طبيعة عمليّة "التنظيف"، وهو الأمر الذي أوصل إلى فلتان الزمام من يد الجميع.
من هم الفلسطينيون الذين بقوا في المخيمات بعد انسحاب منظمة التحرير؟ هل هم من غير المتورّطين بالأعمال العسكرية؟ أم هم من المناهضين لياسر عرفات فآثروا البقاء في بيروت؟ الإسرائيليون يقولون إنّهم "ارهابيون". أنا أقول إنهم الفُراطة التي توزّعت على اللاعبين لتصفية الحسابات فيما بينهم. إنّهم الضحية! لكن ضحيّة على مذبح من؟
يقول كوبرا في كتابه المذكور أعلاه (p. 45 - 48) "أبلغني حبيقة بأنّه كُلّف بإجلاء 2000 "إرهابي" من مخيمي صبرا وشاتيلا، وليس لديه أكثر من 48 ساعة لجمع الشباب والتنفيذ.....
تمّت التحضيرات بوقتها وانتقلت برفقته إلى مبنى عالٍ مجاور للمدينة الرياضية حيث مركز آرييل شارون وحيث يمكننا متابعة عمليّة الإجلاء، لكن سرعان ما اكتشفت – والكلام دائمًا لكوبرا - أن الأوامر المُعطاة للشباب هي أوامر بالإبادة ومسح أبنية المخيّم.... قابلنا شارون الذي كان غاضبًا من أفعال شباب حبيقة، فصرخ بوجه الأخير قائلًا: "أنا لم أطلب منك ارتكاب مجزرة، ولو كنت أريد ذلك لفعلته بدباباتي. سوف تدفع الثمن غاليًا مقابل خطأك هذا!..." وتابع كوبرا: "عدنا إلى الطابق العلوي، وبينما كنّا نتابع الأحداث من على التراس، ورد إلى حبيقة اتصال من شخص يُدعى بول يسال ماذا يفعل بعشرات النساء والأطفال والعجّز الذين يحتجزهم، فأجابه حبيقة بنبرة: أوامرك معك, تابع ولا تعاود الاتصال بي!" (انتهت رواية كوبرا التي مضمونها هو نفس مضمون رواية Ménargues).
ما الذي جعل حبيقة يتخطّى الاسرائيليين ويذهب بعيدًا بفعلته؟
للغوص بهذه الجدلية علينا أن نعرف من المستفيد من فعلة حبيقة:
الإسرائيليون؟.. بالتأكيد لا, كون الشارع الإسرائيلي بدأ الاحتجاجات على تورّط الجيش في لبنان، وجهاز الاستخبارات العسكرية "آمان" كثُرت تقاريره المحذرة من العلاقة مع القوات، والأهم من هذه وتيك أن الليكود، الذي من صفوفه آرييل شارون ومناحيم بيغن، بدأ يتراجع في إحصاءات الانتخابات البرلمانية نتيجة أعماله وتحالفاته في لبنان.
السوريّون؟.. ربما, لأن المجزرة من شأنها دفع فلسطينيي المخيّمات إلى أحضان سوريا، وتورّط شارون وتعرّض مستقبله السياسي، وتؤثّر على وضع الليكود في الانتخابات. كوبرا شبه يؤكّد أنّ السوريّين هم خلف حبيقة ويكشف أن حبيقة التقى مرّتين سرًّا بعبد الحليم خدّام في النصف الأول من العام 1982.
العرفاتيون؟.. هو الاحتمال الأقرب إذ تخدم المجزرة عرفات إستراتيجيًّا بنفس ما خدمت به السوريّون، إضافة إلى تخليصه ممن بقوا في المخيّمات لأنّهم في الغالب من المناوئين لمنظّمته.
بعد هذا العرض، ولأكثر موضوعيّة، لا يُمكننا إسقاط احتمال أن يكون حبيقة قد قام بكل ما قام به بقرار ذاتي انتقامًا لمقتل قائده بشير الجميّل وانتقامًا لكل المجازر التي ارتكبها الفلسطينيون بحق المسيحيين وهي بالعشرات من دير عشاش إلى العيشية والخيام مرورًا بدير مار جرجس الناعمة والدامور حيث يُقال أن خطيبة حبيقة وكامل أفراد عائلتها قُتلوا على أيدي المهاجمين الفلسطينيين. وفي هذا الاحتمال يكون الفلسطينيون هم من جنوا على أنفسهم بقتل أنفسهم، مع التأكيد على رفضي المطلق لمقابلة الوحشية بوحشيّة مماثلة
في المحصّلة، لولا الاختفاء اللغز لتقرير القاضي أسعد جرمانوس المتضمّن إضافةً الى الاستجوابات، وقائع الكشف الفوري على مسرح المجزرة، لكانت الأجوبة حاضرة أمامنا الآن.
جرمانوس سلّم نسخة من تقريره إلى كل من رئيس الجمهوريّة أمين الجميّل ومدير الاستخبارات العسكريّة جوني عبده. صرّح مرة الجميّل لصحيفة Orient Le Jour بأن تقرير جرمانوس احترق ضمن موجودات بيت المستقبل خلال حرب الإلغاء. لكن ما الذي أتى بهكذا مستند إلى بيت المستقبل بينما كان يجب أن يُحفظ في أرشيف تابع للدولة اللبنانية؟
قال لي مرة الشيخ أسعد جرمانوس، إنّه "من خلال استجواب ايلي حبيقة حول مجزرة صبرا وشاتيلا، تبيّن لنا أن ياسر عرفات كان ضالعًا في هذه الجريمة، وهو تصريح يجرّني إلى التساؤل عن اختفاء تقرير هذا القاضي الشجاع والنزيه, واين النسخة التي سُلّمت إلى جوني عبده؟ ولماذا لا توجد نسخة ثالثة في دروج المحكمة العسكرية؟
من جهة ثانية وللإقفال على الموضوع – أو ربّما لإعادة فتحه، بماذا كان يُريد ايلي حبيقة مفاجأتنا عندما قرر افشاء أمور جديدة أمام محكمة لاهاي قبل اغتياله؟ هل كان سيكشف من كان خلف فعلته في صبرا وشاتيلا؟ إذا كان الأمر كذلك فبالتأكيد لم يكن حبيقة يريد استهداف شارون لأن هذا الأخير مورّط مورّط! وبالتأكيد ليس السوريين لأنه كان ما زال ينعم بأحضانهم!... إذًا, لا يبقى سوى ياسر عرفات! وإذا كان تقرير جرمانوس قد تمّ إخفاؤه، فيُمكن الاستعانة بتقرير مقتل حبيقة، لأن مَن اغتال حبيقة هو نفسه الذي كان خلفه في مجازر صبرا وشاتيلا، ولذا كان يجب منعه من الوصول إلى لاهاي.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News