محمد حسن - التحري
يلتصق مصطلح رأس المال عادة بمصطلح "الفردانية"، حدثنا التاريخ عن تمزيق رأس المال لاشكال العلاقات التضامنية القديمة، انه تمزيق للعشائر والمجتمعات الاهلية واشكال الانتاج الجماعي والتبادل المباشر في القرى والتجمعات الحرفية في المدن، حول السكان تحت سقفه الى طبقات، انه تحويل الجماعة لافراد، ابن الجماعة لا يرى نفسه الا بمنظورها لا يدوم الا بها ولا ينتج الا من اجلها ولا وعي له الا وعيها، يتحول هذا الى فرد في مجتمع مفتوح اوسع، منطلق من اناه المحضة وطموحاته الخاصة، العامل الباحث عن قوت يومه المأطرة مساحات معيشته وتجواله باطار ابقائه كفرد، او ابن الطبقة الوسطى الذي يبتغي التسلق الاجتماعي بغية تحصيل المنافع الشخصية غير المتناهية.
هذه الحكاية دائما اليس كذلك؟ خطأ
رأس المال اذكى من ذلك واكثر براعة، هو اكثر براعة في بحثه عن اقصى الربح بأدنى كلفة، فان كان اقصى الربح وادنى الكلفة يتحقق باستغلال علاقات تضامنية قائمة فليكن ذلك، ان كان اقصى الربح الابقاء على عشائر ومجتمعات اهلية واشكال انتاج تقليدية مع تغيير لوظيفتها، بل كذلك باعادة انتاج جماعات ما قبل الدولة الحديثة بشكل اكثر تطورا فليكن ذلك. وان كان اقصى الربح باعادة انتاج جماعات متخيلة عابرة للحدود، كالطائفة مثلا، تحقق للفرد الشعور بالانتماء وحس التضامن فليكن ذلك.
الطائفة، جماعة متخيلة في ذهن الفرد، اي انها تربطه بافراد لا يلتقي بهم في حياته اليومية ولا ينتج مباشرة من اجلهم، يرى عبرها انه يشاركهم الحال والهموم والمصير رغم ان وجودها قد يتجاوز حدود الدول واللغات، و ليس الانتماء لها بالضرورة انتماء لمذهب بل لجماعة متخيلة.
للطائفة ضمن سقف دولة قاعدتها المادية، بالذات في حالتنا اللبنانية، فهي واسطته ان التمس حاجة مادية من الدولة، هي صمغ العلاقات الزبائنية التي يبتغى التسلق عبرها، هي ورقته للمناشدة الاجتماعية، يعلم رأس المال هذا تمام العلم ويطوع هذه الجماعة المتخيلة لنفسه.
اذن رأس المال في لبنان عوض الفردانية المطلقة يعمد الى انتاج علاقات شبه تضامنية بين الافراد.
ربما؟ ولكن يلعب رأس المال لعبة هجينة، انتاج وعي الجماعة وانتاح الوعي الفرداني.
مثلا، ولنأخذ الضاحية الجنوبية كنموذج من بين مختلف مجتمعاتنا الطائفية الصغيرة، بنى رأس المال فيها مؤسسات الحزب المسيطر، سواء المالية كالقرض الحسن، الصحية كمؤسسة الشهيد، التربوية من مدارس ومساجد ومعاهد وكشافة، وبنى اعلامها الموجه والخطاب المنتج لوعيهم، بنى مقاهي ومطاعم ومكاتب ومسارح ودور سنيما ملتزمة بثقافة محددة، بنى بدائل عن مؤسسات الدولة العاجزة، بل لا ننسى انه بنى ترسانة الحزب العسكرية وهيئاته التنظيمية والوظائف الملحقة بها، انه ببساطة بنى الشروط الاجتماعية التي تحفظ الطائفة، والشخص الذي لا يرى وجوده الا بها.
نفسه بنى في وسط بيروت شوارع ومقاهي وحانات واماكن ترفيه والتقاء وتثقيف هي نظريا لاي مستهلك ات، لكن امكن ان تكون مأوى للمتشبعين بثقافة الانسلاخ عن الطائفة، افراد متجاوزين او يدعون التجاوز لقيم ابائهم "الطائفية"، وتحت رعاية الدولة ومراقبتها خلق متنفس لهؤلاء وجمعهم في اطارهم الخاص، وخص منهم ال"مسولفين" في الشأن العام بمساحات صغيرة شبه مغلقة بحكم شروط تكوينها هنا وهناك، غرب فيها هؤلاء عن باقي المجتمع، وخصهم بشبكات وظائف جديدة ليتعلقوا بها علها تحقق لهم طموحاتهم الشخصية.
رأس المال كذلك استطاع خلق فرد يعاني تمزق مضحك، فرد يبتغي الفردانية والانسلاخ ويبتغي ايضا الانتماء للجماعة الطائفية، الفرد الذي ابقى على بعض العناصر الطائفية في وعيه وتجاوز طائفيته قولا، يريد ما تقدمه هذه وما تقدمه تلك، تراه يتقلب مع تقلب الحال، الاقتصادي تحديدا.
رأس المال حول الطائفة الى قيد يصعب الافلات منه، اي ينتمي لها بالاجبار لا بالاختيار، اما كيف يتجاوز ذلك؟ احجية صعبة حدا.
وكيف العبور من مجتمع طائفي يعيد انتاجه رأس المال تحت نظر الدولة؟ احجية اصعب. ويبقى البديل الذي تتكلم حوله المعارضة منوطا بهذه الاشكالية.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News