في توقيت بالغ الدقة، وبعد مساعٍ حثيثة من كافة الأطراف المعنية لإنهاء قضية مقتل الجندي الإيرلندي شون روني (23 عامًا) في محلة العاقبية في كانون الأول من العام 2022، على يد مجموعة ينتمي معظم أفرادها إلى حزب الله، أصدرت المحكمة العسكرية مساء اليوم حكمًا في القضية قضى بإنزال عقوبة الإعدام بحق المتهم محمد عيّاد بعد محاكمته غيابيًا وتغريمه 100 مليون ليرة، فيما حكمت على علي سليمان بالسجن ثلاثة أشهر وبغرامة مماثلة، وعلى علي خليفة بالسجن شهرًا مع الغرامة ذاتها. كما اكتفت المحكمة بتغريم كل من حسين سليمان ومصطفى سليمان وعلي حكيم 200 مليون ليرة عن كل منهم، وأعلنت براءة محمد مزهر لعدم كفاية الدليل.
ويأتي حكم المحكمة عشية الحديث عن معوقات تعترض التجديد لقوات اليونيفيل في لبنان، الذي أظهر من خلال إنهاء هذه القضية “حسن نيّته” عبر محاكمة المتهمين بعد أن سلّموا أنفسهم طوعًا، وسط ترحيب من السفارة الإيرلندية في لبنان بهذه الخطوة، بحسب مصادر مقرّبة منها، رغم أن المحكمة كانت قد أفرجت بهيئتها السابقة عن المتهم الرئيسي محمد عيّاد بكفالة مالية باهظة بذريعة المرض.
كل شيء كان محضّرًا لإنهاء هذا الملف، بدءًا من تقريب موعد الجلسة التي كانت مرجأة إلى شهر أيلول المقبل، مرورًا بتسليم ستة من المتهمين أنفسهم تلقائيًا بعدما كانوا قد حوكموا غيابيًا، وحضور عشرة من وكلاء الدفاع عنهم، وانتهاءً بحضور وفد رفيع من السفارة الإيرلندية الجلسة، وعلى رأسه السفيرة الإيرلندية، ونائبة وزير الدفاع الإيرلندي، وعدد من مستشاري الوزارة، فضلًا عن عائلة المغدور التي تمثّلت بزوج والدته، والمستشار القانوني للسفارة المحامي جو كرم، والقنصل الفخري جورج صياح، والمحامي يوسف صفير من الدائرة القانونية في قوات اليونيفيل في لبنان.
وحده القاضي رولان الشرتوني لم يكن في “هذا الجو”، إذ عبّر عن دهشته حين أعلن رئيس المحكمة العميد وسيم فياض أن الجلسة مخصصة للمرافعة والحكم بعد استجواب المتهمين الستة، فقال إنه كان يتمنى لو أن المحكمة أطلعته مسبقًا على الأمر لإعداد مرافعة تليق بالمحكمة وبالقضية.
وتلقّف الشرتوني سريعًا نيّة الجميع إنهاء هذا الملف، فبدأ مرافعته بالقول إن “القلوب تخفق لتبقى قوات حفظ السلام في لبنان، لما تقوم به من أعمال إنسانية واجتماعية وحتى ثقافية”.
في سرد وقائع الجريمة، اعتبر الشرتوني أن المتهمين نصبوا أنفسهم مكان الدولة وعمدوا إلى الاعتداء على آلية تابعة لليونيفيل ضلّت طريقها، مستغربًا كيف أن المتهمين ادعوا أنهم لم يكونوا على علم بأن الآلية تابعة لليونيفيل، رغم أنها تحمل شعارًا واضحًا على غطاء محركها وأحد جوانبها. وأشار إلى أن الجنود الإيرلنديين قاموا بنزع علم قوات الطوارئ عن الآلية بعد أن ضلوا الطريق وشغّلوا جهاز التشويش، إلا أنهم تعرضوا للعصي والتكسير، ولم يكتفِ المتهمون بذلك، بل عمدوا إلى إطلاق النار ما أدى إلى إصابة أحد الجنود الذي فارق الحياة لاحقًا. وانتهى الشرتوني إلى طلب تجريم المتهمين بالمواد المدعى بها عليهم، والتي تصل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.
في مرافعة مشبّعة بالاستعارات القانونية، استهل المحامي محمد حمود مرافعته بتقديم “أحرّ التعازي للكتيبة الإيرلندية”، منوّهًا بمواقفها الفريدة تجاه القضية، ومؤكدًا أن جنودها أصبحوا جزءًا من النسيج اللبناني. وتوجّه حمود إلى الحكومة الإيرلندية، ممثلة بسفارتها، قائلاً إن الحادث وليد لحظته وحصل عن طريق الخطأ، وشرح بإسهاب وقائع الحادثة، محمّلًا جزءًا من المسؤولية للجنود الذين كانوا في آليتهم، قائلاً: “لو أنهم تجاوبوا مع المتهمين لدى عرض المساعدة عليهم، لما حصل ما حصل”. واعتبر أن دخول الآلية من دون مواكبة من الجيش اللبناني أثار الريبة، مبررًا ردّة فعل المتهمين بما عانوه من العدو الإسرائيلي ومن الإرهابيين، ما زرع الشك في نفوسهم.
وانتقد حمود القرار الاتهامي، مبدياً ملاحظاته حول شمولية التهم، لافتًا إلى أنه لا ارتباط مباشر بين المشاركين في الحادث، كما أن المدعى عليهم لم يكونوا جميعًا في مكان واحد. ورغم عدم مثوله، دافع حمود عن محمد عيّاد الذي أطلق أربع رصاصات، كاشفًا أن الأخير كان بصدد المثول أمام المحكمة، إلا أن عارضًا صحيًا استدعى نقله إلى المستشفى. وقال إن عيّاد صوّب باتجاه إطار الآلية، ولم تنصرف نيته إلى القتل، واعتبر أن الجندي توفي نتيجة تناثر شظية من باب الآلية الخلفي، طالبًا في الختام إبطال التعقبات عن موكليه أو إعلان براءتهم.
وقبيل رفع الجلسة، توجّه رئيس المحكمة إلى السفيرة الإيرلندية والوفد المرافق قائلاً: “نتقدّم بالتعازي من الدولة الإيرلندية. صحيح أن لا شيء يعوّض، لكن بعض الكلمات من القلب قد تخفف من وطأة المصاب. ونعتبر أن الفقيد هو واحد من أولادنا، من جيشنا، من أهلنا”.
في مستهل الجلسة، استجوبت المحكمة المتهمين الستة الذين أجمعوا على نفي مشاركتهم في الاعتداء على الجنود الإيرلنديين، كما نفوا امتلاكهم لأي سلاح خلال الحادثة، أو رؤيتهم لمحمد عيّاد يطلق النار. وحمّل المتهمون، كما وكيلهم، المسؤولية للجنود الذين أثاروا الريبة بوجودهم في المنطقة، ثم عودتهم السريعة إليها، ومحاولة مغادرتهم بسرعة، حيث اعترضهم عدد من الشبان ومن بينهم نساء وأطفال، وعمدوا إلى الاعتداء على الآلية. وزعم المتهمون جميعًا أنهم لم يكونوا على دراية بأن الآلية تابعة لليونيفيل، متحدثين عن علاقة ودّية تجمع الأهالي بالجنود، حتى إنهم “شاركونا في عاشوراء في توزيع الهريسة”.
وعن سبب عدم تبليغهم الجيش اللبناني، ردّ أحدهم: “ما كان في وقت”، بينما قال آخر إن الآلية دهست عددًا من الأشخاص أثناء محاولة السائق الفرار من المكان، وهو ما أثار غضب الحشود.