لم يعد سرًّا أنّ الأولويات المالية للحكومة اللبنانية تتوزّع بشكل يثير الكثير من التساؤلات والاعتراضات. ففي جلستها الأخيرة، أقرّ مجلس الوزراء تقسيط المستحقات غير المسدّدة للمقاولين والاستشاريين لدى مجلس الإنماء والإعمار، على أن تُحتسب وفق سعر صرف ٨٩,٥٠٠ ليرة للدولار الأميركي، وباستخدام اعتمادات “خطة النهوض” بغض النظر عن مصدر التمويل الأصلي للعقود.
وبحسب جدول الأعمال الذي تمّت دراسته، وافقت حكومة الرئيس نواف سلام على نقطتين:
الأولى، اعتماد الرأي الاستشاري الصادر عن ديوان المحاسبة رقم ٦٠/٢٠٢٤ تاريخ ٢٥/٦/٢٠٢٤، بحيث يُعتمد سعر الصرف بتاريخ الإيفاء، أي ٨٩,٥٠٠ ليرة لبنانية للدولار الأميركي، وذلك عن جميع المستحقات السابقة غير المسدّدة.
والثانية، تخصيص الاعتمادات الملحوظة في بند “خطة النهوض” في الموازنات السنوية لتسديد هذه المستحقات، بصرف النظر عن مصدر التمويل المحلي الأساسي للعقود (اعتمادات القانون رقم ٢٤٦ تاريخ ١٢/٧/١٩٩٣، مراسيم تنفيذ قرار مجلس الوزراء رقم ٩٩ تاريخ ٣٣/٥/٢٠١٤، أو مراسيم خاصة بمشاريع محدّدة).
إغداق على المقاولين
بهذا القرار منحت الحكومة المقاولين امتيازًا مزدوجًا: أولًا عبر رفع سعر الصرف من ٤٥,٠٠٠ ليرة الذي سبق أن اعتمدته في قرارات سابقة، إلى ٨٩,٥٠٠ ليرة، وثانيًا عبر تخصيص اعتمادات جديدة من “خطة النهوض” من دون أي دراسة جدية لتأثير القرار على الخزينة. والنتيجة المباشرة هي تحميل المالية العامة أعباء إضافية تُقدّر بنحو ٨٣ مليون دولار، في بلد يتخبّط بأزمة مالية خانقة وعجز مستمر عن تأمين أبسط حقوق مواطنيه.
حرمان موظفي القطاع العام
في المقابل، يقف موظفو القطاع العام أمام واقع معاكس تمامًا. رواتبهم الهزيلة التي لا تكفي لسدّ كلفة المواصلات لم تُصحَّح، وتعويضاتهم ومعاشاتهم التقاعدية ما زالت رهينة مقترحات ومشاريع قوانين معلّقة. حتى التصحيح الجزئي الذي أُقرّ سابقًا لم يُطبّق بشكل متوازن، ليبقى الموظف، الذي يشكّل العمود الفقري للإدارة العامة، الضحية الأولى للسياسات الحكومية.
لا إعمار ولا تنمية
الأغرب أن الأموال المرصودة لتغطية مستحقات المقاولين تأتي في وقت لا يشهد فيه لبنان أي عملية إعادة إعمار حقيقية. المدارس المتضرّرة على الحدود لم تُرمَّم بالكامل، البنية التحتية في القرى ما زالت مهترئة، ومشاريع الكهرباء والمياه مؤجّلة إلى أجل غير مسمّى. في المقابل، تُصرف الملايين لتسديد فواتير متأخّرة لمتعهدين، من دون التأكد حتى من استمرارهم في تنفيذ عقودهم.
تسوّل للدواء وتمويل للديون
وفي الوقت الذي تُغدق فيه الحكومة الأموال على المقاولين، يتعامل مجلس الوزراء مع ملف الدواء والاستشفاء بمنطق مختلف تمامًا: لجان وزارية للتسوّل من الجهات المانحة لتغطية علاجات مرضى القلب والسرطان والفشل الكلوي. المواطن، الذي يواجه الموت، ينتظر لجنة أو هبة أو تبرّع، فيما المقاول يحصل على قرارات فورية تضمن له مستحقّاته بالدولار وفق سعر صرف شبه واقعي.
ثغرات قانونية ومالية
إضافة إلى التفاوت الفاضح في الأولويات، يعاني القرار من ثغرات قانونية خطيرة، أولها تجاهل قرار سابق لمجلس الوزراء ورأي وزارة المالية باعتماد سعر صرف ٤٥,٠٠٠ ليرة، ثانيها غياب أي شرط لاستمرار المقاولين في تنفيذ عقودهم، ثالثها صدور القرار من دون تنسيق مع وزارة المالية أو مصرف لبنان، في خرق واضح لقانون المحاسبة العمومية، ورابعها استخدام اعتمادات “خطة النهوض” لتغطية مشاريع ممولة بقوانين برامج خاصة، ما يستوجب تشريعًا من المجلس النيابي، لا قرارًا حكوميًا.
أولويات معكوسة
بين إغداق الأموال على المقاولين وإهمال موظفي الدولة، وبين دفع ملايين الدولارات لتسديد متأخّرات عقود قديمة وترك المدارس والبنى التحتية بلا إعمار، وبين تسديد الفواتير بالدولار وترك المرضى عرضة للتسوّل على أبواب المستشفيات، يثبت مجلس الوزراء أنه يُكرّس سياسة الأولويات المعكوسة. قرارات كهذه لا تعكس نهجًا إصلاحيًا أو رؤية إنقاذية، بل استمرارًا في إدارة الانهيار.
للاطلاع على عرض نائب رئيس مجلس الوزراء لدراسة حول وضعيةمستحقات المقاولين اضغط هنا.