في ظل الحصار الخانق والأزمة الإنسانية غير المسبوقة التي يعيشها قطاع غزة بفعل الاحتلال الإسرائيلي، برزت على منصات التواصل حملة دعائية غير عادية صوّرت شخصاً كان مجهولاً لمعظم الغزيين باعتباره "القائد المحلي المنقذ".
ياسر أبو شباب، الذي قدّم نفسه قائداً لـ"القوات الشعبية" المناهضة لحركة حماس، تحوّل فجأة إلى "بطل رقمي" في رواية إسرائيلية متكاملة قُدّم فيها بديلاً "شرعياً" قادراً على فرض الأمن وتقديم الخدمات. البداية كانت مع مقطع فيديو نشره عبر حساباته على فيسبوك تحت اسم "ياسر أبو شباب- القوات الشعبية"، ادعى فيه أنه أسس مدارس خاصة ومستشفيات وأجهزة أمنية في رفح، بل تحدّث عن إجلاء مدنيين من دير البلح وخان يونس بدعم من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وسرعان ما وجدت هذه المقاطع طريقها إلى منصات التواصل، لتتحول إلى حملة دعائية قادتها حسابات إسرائيلية وغربية قدّمته كـ"القائد المنقذ" الذي يعيد الأمن والتعليم والسلام إلى غزة. وقد تتبّع فريق "الجزيرة تحقق" هذه الحملة الرقمية التي ضخمت صورة أبو شباب، بالتزامن مع تحليل صور الأقمار الصناعية للتحقق من صحة مزاعمه، ورصد مواقع مليشياته وحدود إنشائها ونفوذها.
بين 11 و13 آب الجاري، شهدت منصة "إكس" نشاطاً غير عادي عبر حسابات مؤيدة لإسرائيل نشرت بشكل مكثف مقاطع وصوراً لأبو شباب، وقدّمته بالإنجليزية تحديداً باعتباره "البديل الإيجابي" لحماس. هذا التنسيق بدا لافتاً، بما يعكس حملة منظمة لإظهاره كـ"قائد منقذ" في غزة.
المؤسسات الإسرائيلية انخرطت مباشرة في الحملة، حيث نشر الحساب الرسمي "إسرائيل بالعربية" مقطعاً بعنوان "سنبدأ من جديد ونعيد التعليم في قطاع غزة"، وقدّم فيه معلمون زُعم أنهم مناهضون لحماس أسسوا "أول مدرسة للسلام والتسامح". كما أُرفقت شهادات من معلمة تُدعى نجاح اتهمت حماس باستغلال المناهج للتحريض على الكراهية.
وانضمت منظمات أميركية إلى الحملة، أبرزها "مركز اتصالات السلام" (Peace Communications Center) في نيويورك، الذي يضم في مجلس إدارته السفير الأميركي السابق في إسرائيل دينيس روس، حيث نشر الفيديو نفسه واعتبره "أول مدرسة للسلام والتسامح في غزة". كما شارك باحثون وإعلاميون مؤثرون في الترويج للرواية، مثل جو تروزمان من مؤسسة "إف دي دي" الأميركية، وإيال يعقوبي الذي قدّم تصريحات منسوبة إلى أبو شباب على أنها "بيانه العلني الأول"، وقال فيها: "هدفنا حماية الفلسطينيين من إرهاب حماس والتوسع إلى مناطق أخرى".
اللافت أن الخطاب كان موحّداً بين مختلف الحسابات، إذ تكررت العبارات نفسها: "إرهاب حماس"، "ممرات إنسانية آمنة"، "مشروع إنساني"، "إدارة خالية من حماس"، بما يعكس وحدة في الرسائل والهدف.
لكن تدقيق "الجزيرة تحقق" كشف حقيقة مغايرة. ففي 10 آب الجاري نشر أبو شباب مقطع فيديو ظهر فيه أمام خيمتين صغيرتين شرق رفح، زاعماً أنه أسس مدرسة ومستشفى وأجهزة أمنية. إلا أنّ صور الأقمار الصناعية أظهرت أن الخيمتين نصبتا حديثاً خلال شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس 2025، ما يعني أن "المشروع المتكامل" لم يكن سوى إنشاءات مؤقتة.
تحليل فيديوهات أخرى نشرها أبو شباب في 29 و31 تموز الماضي أظهر أن نطاق حركة مليشياته لا يتجاوز محيطاً ضيقاً لا يزيد على كيلومتر واحد على امتداد شارع صلاح الدين شرق رفح. وبيّنت صور الأقمار الصناعية أن نشاطه يتمركز داخل المنطقة المحظورة التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي، على بُعد أقل من كيلومترين من أقرب نقطة تمركز عسكري إسرائيلي قبالة معبر رفح، ما يضعه تحت أنظار الاحتلال المباشرة.
هذا التموضع منح أبو شباب سيطرة رمزية على مسارات دخول المساعدات عبر رفح وكرم أبو سالم، وسمح بتقديمه كـ"متحكم بالمشهد الإنساني". لكن الواقع، كما أظهر التحقيق، لا يتعدى خيمتين نصبتا في منطقة عازلة خاضعة لرقابة إسرائيلية، بلا مدارس ولا مستشفيات ولا أجهزة أمنية، بل رواية دعائية صنعت "قائداً منقذاً" لا وجود له على الأرض.