"ليبانون ديبايت"
إنه الوزير الباحث عن إنجاز إعلامي. ففي زمن الأزمات الوطنية، تبرز وزارات الدولة كساحات تنافس بين الوزراء، حيث يسعى كل منهم إلى تسجيل سبق أو إنجاز يضاف إلى رصيده السياسي. إلا أن ما يقوم به وزير المهجرين كمال شحادة اليوم يتجاوز حدود الإصلاح المزعوم، ليصبح أقرب إلى مقامرة بذاكرة وطنية وحقوق إنسانية. فإصراره على تسويق مشروع إلغاء وزارة المهجرين وصندوقها، في وقت لم تُستكمل فيه الإخلاءات والتعويضات والمصالحات، يشي بأن الهدف الأبرز هو مجد شخصي يرفعه في مواجهة زملائه في الحكومة، لا سيما الوزير فادي مكي، في سباق محموم نحو تحقيق إنجازات شكلية على الورق.
شعار "إنهاء ملف المهجرين" قد يبدو للوهلة الأولى خطوة إصلاحية، لكن الحقيقة أن ما يطرحه شحادة لا يعدو كونه قصّ شريط سياسي فارغ. إذ كيف يمكن الحديث عن إلغاء الوزارة فيما لا تزال ملفات حساسة معلّقة في جبل لبنان والشوف، وفيما لم تُستكمل المصالحات الإجتماعية في أكثر من بلدة؟ هل يجوز أن تُطوى صفحة المهجرين لمجرد أن وزيرًا يريد إدراج "إلغاء وزارة" في سيرته الوزارية القصيرة؟
حقوق الناس ليست سلعة في المزاد السياسي
ملف المهجرين ليس مشروعًا إنتخابيًا ولا مناقصة خدماتية، بل هو أحد أعقد الملفات الإنسانية والاجتماعية والسياسية في تاريخ لبنان الحديث. آلاف العائلات ما زالت تعيش على وقع خسائر الحرب، بعضها لم يحصل على التعويض، وبعضها الآخر ينتظر تنفيذ قرارات الإخلاء ليستعيد منزله. ورغم ذلك، يطل الوزير كمال شحادة اليوم ليقترح إلغاء الوزارة وكأن كل شيء قد أنجز على أكمل وجه.
إنها مهزلة وطنية أن تُختزل معاناة عقود بشعار إصلاحي زائف. والأخطر أن هذه الخطوة تُقدَّم كإنجاز في إطار منافسة ضيقة مع الوزير فادي مكي، حيث يسعى كل طرف إلى تسجيل نقاط على الآخر أمام الرأي العام. وكأن حقوق المهجرين سلعة في بازار تنافسي، أو مادة دعائية في معركة شخصية. أي إصلاح هذا الذي يطيح بمصالح المواطنين من أجل صورة أو عنوان في الصحافة؟
الوزارة ركن من أركان الطائف
منذ تأسيسها بعد اتفاق الطائف، كانت وزارة المهجرين تجسيدًا لإلتزام الدولة بمداواة جراح الحرب الأهلية. وُجدت هذه الوزارة وصندوقها لترسل رسالة واضحة: لن نترك ضحايا التهجير لمصيرهم. واليوم، يحاول الوزير شحادة أن ينقض هذا المعنى، عبر إقفال الوزارة قبل أن تكتمل المهمة. هذا التوجّه ليس مجرد خطأ إداري، إنه طعنة سياسية في روح اتفاق الطائف نفسه، الذي جعل من عودة المهجرين شرطًا أساسياً لإعادة التوازن الوطني وترسيخ المصالحة.
كيف يمكن لشحادة أن يتجاهل هذه الحقيقة؟ كيف يجرؤ على التعامل مع الوزارة وكأنها عبء فائض، لا كرُكن من أركان العدالة الإنتقالية في لبنان؟ الإجابة تكمن في منطق البحث عن "إنجاز" سريع، حتى لو كان على حساب إرث وطني ومهمة لم تُستكمل بعد.
إلغاء قبل الإنجاز: خيانة لجوهر المصالحة
إن أخطر ما في طرح شحادة أنه يساوي بين إلغاء الوزارة وبين إنجاز الملف. بينما الواقع يثبت العكس: الإلغاء في ظل وجود ملفات عالقة يعني ببساطة دفن القضية حيّة. إنه إعلان رسمي بأن الدولة لم تعد معنية بمتابعة حقوق هؤلاء الناس، وأن من لم يحصل على حقه حتى الآن، فليبقَ مظلومًا إلى الأبد.
بهذا المعنى، يصبح الإلغاء قبل الإنجاز نوعًا من الخيانة الوطنية لجوهر المصالحة التي وُلدت بعد الحرب. فالمصالحة ليست خطابات ولا صورًا تذكارية، إنها حقوق ملموسة، بيوت تُستعاد، تعويضات تُدفع، وكرامات تُصان. وما يقترحه الوزير شحادة ليس إلا مقايضة لهذه الحقوق بورقة إنجاز سياسي يضيفها إلى رصيده الشخصي.
تنافس وزاري على أنقاض الناس
ليس سرًا أن التنافس بين الوزير كمال شحادة والوزير فادي مكي يلعب دورًا في هذا الإستعجال. فكلاهما يريد أن يخرج من وزارته بإنجاز يُسوَّق للرأي العام، في إطار السباق نحو قرض البنك الدولي المتعلق بالتحول الرقمي. لكن الفارق أن شحادة إختار أقصر الطرق: إلغاء وزارة كاملة. هو يعلم أن هذا العنوان سيبدو جذابًا للإعلام، لكنه يتناسى أن ما وراءه حقوق بشرية وذاكرة جماعية لا تحتمل المساومة.
لقد تحولت حقوق المهجرين إلى ملعب سياسي بين وزيرين، في سباق يفتقر إلى البوصلة الوطنية. وبينما يتباهى شحادة بنيّته إقفال الوزارة، يغفل عن أن الإنجاز الحقيقي لا يكون بإلغاء مؤسسة، بل بإنهاء الملف فعليًا وضمان أن آخر مهجَّر قد عاد إلى بيته وحصل على تعويضه. ما يفعله الوزير اليوم هو قلب للمعادلة: يسعى إلى الإنجاز الظاهري ولو على حساب الإنجاز الجوهري.
إنجاز زائف وذاكرة مثقوبة
إذا أصر الوزير شحادة على المضي في مشروعه، فإن ما سيُسجَّل في التاريخ لن يكون أنه الوزير الذي "أنهى ملف المهجرين"، بل أنه الوزير الذي بحث عن مجد شخصي على أنقاض معاناة الناس. سيُذكر أنه إستعجل إقفال صفحة لم تُكتب نهايتها بعد، وأنه إختار السباق السياسي على حساب العدالة الإجتماعية والوطنية.
إن أي إصلاح حقيقي يبدأ بإنهاء المهمة لا بإلغاء المؤسسة. وأي وزير يحترم موقعه يعرف أن الإنجاز ليس في قصّ شريط وهمي، بل في تسليم الحقوق كاملة لأصحابها. أما كمال شحادة، فإختار الطريق السهل: إنجاز زائف يضيفه إلى سيرته، وذاكرة وطنية مثقوبة يتركها وراءه