لكن الواقع مختلف تمامًا. فالإهمال يأكل تفاصيل هذه المعالم شيئًا فشيئًا، حيث تقف الدولة عاجزة عن صونها أو حتى فرض أبسط القواعد لحمايتها. ما عجزت عنه قرون من الزمن والظروف الطبيعية، ينجح اليوم الإهمال البشري في تشويهه ومحو معالمه.
من بين هذه المواقع، تبرز قلعة بعلبك، إحدى أعرق الحصون الأثرية في لبنان والشرق الأوسط. القلعة التي كانت تُعرف بأنها من أعظم الصروح الرومانية، تحولت اليوم إلى معلم منسي إلى حد لا يوصف، رغم ما تمثله من قيمة تاريخية وسياحية.
وما تقشعر له الأبدان أكثر من مشهد غير مألوف، بل ومسيء، جرى في دهاليز القلعة. فقد حصل "ليبانون ديبايت" على فيديو صادم يُظهر شابًا وفتاة في وضعية غير لائقة (نتمنع عن نشر الفيديو احترامًا لهذا الصرح التاريخي)، في وقت كان عدد كبير من السياح الأجانب واللبنانيين يتجولون داخل المكان لاكتشاف هذا المعلم التاريخي. كما اشتكى عدد من المؤثرين في بعلبك من الإهمال والتقصير ومن تكرار أفعال مسيئة مشابهة لهذه الحادثة داخل القلعة.

المشهد لا يقتصر على كونه خرقًا للأخلاق والحشمة العامة، بل يكشف حجم الفوضى وغياب الرقابة، إذ إن موقعًا أثريًا بهذا الحجم والمكانة لا يحظى بأبسط مقومات الحماية. كيف يُترك التراث بلا رقيب؟ وكيف تتحول القلاع إلى مساحات مستباحة، بدل أن تكون وجهة حضارية تُحاكي عظمة التاريخ؟
القضية فتحت الباب على أسئلة أكبر:
• هل المسؤولية تقع على عاتق الدولة وحدها بسبب الإهمال وغياب الرقابة؟ وأين دور بلدية بعلبك؟
• أم أن اللوم الأكبر يقع على بعض “ضعيفي النفوس” الذين لا يرون في هذه المعالم سوى جدران صامتة شاهدة على أفعالهم المشينة داخلها؟
• أم أن المشكلة تكمن في ثقافة مجتمعية فقدت احترامها للتراث العام والقيم المشتركة؟
السؤال البوصلة يبقى: إلى أين؟.. إلى أين يتجه لبنان بتراثه الذي يُترك عرضة للتآكل المادي والمعنوي؟ وكيف يمكن إقناع العالم بأن لبنان بلد الحضارات فيما شواهد هذه الحضارات تُهان على أرضه؟
الحفاظ على المعالم الأثرية ليس ترفًا، بل مسؤولية وطنية وثقافية وأخلاقية. فقلعة بعلبك، وسواها من المواقع، ليست ملكًا لجيلٍ بعينه، بل إرث إنساني يجب أن يُصان للأجيال المقبلة. وإلا، فإن الخطر الأكبر ليس فقط في خسارة السياحة، بل في خسارة الهوية ذاتها.
اليوم، لم يعد مسموحًا التعامل مع هذه القلاع كأحجار صامتة أو خلفيات لصور تذكارية. آن الأوان أن تتحمل الدولة مسؤوليتها الكاملة في حماية هذه المواقع عبر وضع خطة واضحة للرقابة والصيانة والترويج السياحي، كما آن الأوان أن يعي المجتمع اللبناني دوره في الحفاظ على إرثه بدل انتهاكه. فإما أن نصون تاريخنا ونرفعه كراية حضارية أمام العالم، وإما أن ندفنه بأيدينا ونكتب بأنفسنا شهادة وفاته.