إخلاء سبيل رياض سلامة لم يكن “مكرمة” من أحد ولا “هزيمة” لأحد، بل استحقاق قانوني بحت. المادة 108 من أصول المحاكمات الجزائية واضحة وضوح الشمس:
• في الجنح، لا يجوز أن يتجاوز التوقيف الاحتياطي شهرين قابلة للتجديد مرة واحدة في “حالة الضرورة القصوى”.
• في الجنايات، السقف 6 أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة بقرار معلّل (أي 12 شهرًا كحد أقصى).
وبالتالي، بعد انقضاء قرابة 12 شهرًا، يصبح إخلاء السبيل قاعدة لا خيارًا سياسيًا. عدم إطلاق سراح سلامة في هذا التوقيت كان سيشكّل مخالفة صريحة لأصول المحاكمات الجزائية، فيما إطلاقه تطبيق مباشر للقانون.
سلامة أمضى أكثر من 13 شهرًا موقوفًا، قبل أن تقرر الهيئة الاتهامية في بيروت الإفراج عنه مقابل كفالة غير مسبوقة: 14 مليون دولار نقدًا و5 مليارات ليرة، مع منع سفر لسنة كاملة. الكفالة لم يضعها المتهم، بل وضعها القضاء وحده، الذي فرض أن تكون نقدية حصراً وحدّد قيمتها. أي اعتراض على “نقدية” الكفالة أو رقمها يجب أن يُوجَّه إلى المحكمة التي قررت، لا إلى من امتثل.
واللافت أن القضاء رفض أن تكون الكفالة غير نقدية، كالعقارية مثلاً، في حادثة مستغربة، علمًا أن وضع كفالة بعد انقضاء السنة يُعتبر أمرًا غير قانوني بحسب اجتهاد أكثر من مرجع قانوني وبموجب قرارات صادرة عن القضاء اللبناني.
حين أُوقف سلامة في أيلول 2024، سارع قادة سياسيون إلى الإشادة بالخطوة واعتبارها “تطورًا مهمًا” ينبغي المضي به “من دون تلاعب أو ضغوط”. لكن ما إن صدر قرار إخلاء السبيل، حتى انقلب المشهد رأسًا على عقب، وبدأت الحملة المضادة على القضاء نفسه. فكيف يُمدَح القضاة ويُشتمون بحسب الأهواء والمصالح السياسية؟
أما في ما يخص شبهات “تبييض الأموال”، فالقضاء نفسه على اطلاع كامل على الذمة المالية لرياض سلامة. الجميع يعرف أنه مليء ماليًا، وله أصدقاء وعلاقات، والتحقيق في مصدر الكفالة ما زال جاريًا. فلماذا استباق التحقيق وإصدار الأحكام المسبقة؟ أليس من حق سلامة أن يؤمّن الأموال لكفالته ضمن الأطر القانونية؟
المضحك المبكي أن “التيار الوطني الحر” ومعه القاضية غادة عون، اللذين يطالبان اليوم برؤوس تُسلَّم على مذبح السياسة، هما جزء من منظومة مثقلة بالارتكابات والملفات. بأي حق يتحوّل القضاء إلى عصا بيد هذا الفريق، بينما تُطوى ملفاتهم أو تُدفن في الأدراج؟
ثم إن القضاء اليوم مطالب أكثر من أي وقت مضى بالتصدي للمشكّكين بعمله وحماية الإجراءات القانونية التي يتم اتباعها. فهذه الحملة المنظمة التي تُشنّ لا تهدف إلا إلى التأثير على عمل القضاء، وزجّه في معارك سياسية، وتقويض حق الدفاع المقدّس للمتهم عن نفسه.
أما تحميل سلامة وحده وزر الانهيار، فهو ظلم صارخ. الانهيار المالي لم يصنعه فرد، بل منظومة متكاملة: الدولة التي راكمت الديون، المصارف التي جازفت بودائع الناس، المصرف المركزي الذي لجأ إلى “الهندسات” بموافقة الحكومات، وحتى المودعون الذين طمعوا بفوائد خيالية. تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واضحة: ما جرى مسؤولياته متوزعة ولا يمكن التنصّل منها برميها على شخص واحد.
إنّ الدفاع عن رياض سلامة اليوم ليس دفاعًا عن شخصه بقدر ما هو دفاع عن القانون نفسه. فإذا صار تطبيق المادة 108 جريمة بعيون السياسيين، فلن يكون لدينا قضاء بل مسرحية هزلية. المطلوب أن يُحاكم سلامة أمام قضاء مستقل، لا أن يُدان مسبقًا أمام محكمة السياسة والإعلام.
رياض سلامة يبقى متهمًا أمام القضاء، لكن القضاء لا يجوز أن يبقى متهمًا أمام الشعبوية. العدالة ليست ملكًا لنواب “التغيير” ولا أداة لـ”التيار الوطني الحر”، بل ميزان واحد يُطبّق على الجميع. ومن أراد حقًا دولة القانون، فليحترم القانون كما هو، لا كما يريد.