“ليبانون ديبايت”
شكّل خطاب رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل في قداس “13 تشرين” محطة سياسية متقدّمة على مستوى المضمون والتوقيت. فالرجل، الذي لطالما تموضع في قلب النقاش الوطني، قدّم ثلاث مقاربات مترابطة تُعيد رسم موقع لبنان في المعادلة الداخلية والخارجية: اتفاقية دفاع استراتيجي مع الولايات المتحدة، ومبادرة تصويت المنتشرين، والدفاع عن صلاحيات رئاسة الحكومة.
إشارة باسيل إلى اتفاقية دفاع استراتيجي مع واشنطن لم تأتِ في سياق شعارٍ أو مناورة داخلية، بل عكست وعياً بتبدّل موازين القوى بعد 7 تشرين الأول 2023. فالمنطقة تشهد مرحلة إعادة رسم التحالفات والضمانات الأمنية، ولبنان، بحسب باسيل، لا يمكن أن يبقى متلقّياً سلبياً لما يُرسم حوله.
الطرح الدفاعي حمل أبعاداً متعددة، أولها تثبيت قواعد الردع ضمن اتفاق رسمي يضمن أمن لبنان من أي عدوان إسرائيلي محتمل، ويحوّل الردع من “قوة ظرفية” إلى التزامٍ دولي واضح. ثانيها تحويل عناصر القوة اللبنانية إلى مكاسب مؤسساتية، بحيث يُوظَّف موقع لبنان وثرواته وما يملكه من قدرات عسكرية في الحصول على دعم اقتصادي وعسكري منظَّم، لا مساعدات مشروطة أو ظرفية. أما البعد الثالث، فيتمثل في توحيد المرجعية الدفاعية من خلال دمج كل الطاقات في إطار دولة وجيش وقيادة شرعية واحدة. بهذه المقاربة، يفتح باسيل الباب أمام نقاشٍ وطني حول “استراتيجية دفاعية” تُخرج لبنان من ازدواجية القرار العسكري وتحوّله إلى دولة قادرة على حماية سيادتها ضمن شرعيتها.
النقطة الثانية في الخطاب تمثّلت في مبادرة باسيل لمعالجة أزمة اقتراع المنتشرين، حيث طرح حلاً مرناً يُتيح لهم حرية الاختيار بين التصويت لمقاعد الاغتراب أو لدائرتهم الأصلية في لبنان، على أن يُمنح المقيم الخيار نفسه لتفادي أي طعن دستوري.
هذه المبادرة لا تُقرأ كإجراء إداري فحسب، بل كخطوة سياسية تسعى لإشراك الاغتراب في صناعة القرار الوطني بطريقة متوازنة. فالمنتشرون، الذين يشكّلون امتداداً حيوياً للبنان في العالم، يتحولون عبرها إلى شركاء حقيقيين في السيادة لا مجرد داعمين من الخارج. كما أن اقتراح باسيل يُحصّن العملية الانتخابية المقبلة من أي محاولة لتطييرها تحت ذريعة “التمييز بين المقيم والمغترب”.
في جوهرها، تُعبّر هذه المبادرة عن رؤية تعتبر الاغتراب رصيداً استراتيجياً للبنان — سياسياً واقتصادياً وثقافياً — لا ورقة انتخابية ظرفية تُستخدم في الحملات السياسية.
أما النقطة الثالثة، والتي شكّلت مفاجأة سياسية لافتة، فهي دفاع باسيل العلني عن موقع رئاسة الحكومة وصلاحياتها، إذ شدّد على أن “رئيس الحكومة ليس صهيونياً”، وأن المسّ بصلاحياته خط أحمر تماماً كما المسّ بصلاحيات رئيس الجمهورية.
في لحظة من الانقسام العمودي بين المؤسسات، أعاد باسيل التذكير بجوهر الصيغة اللبنانية: الشراكة المتوازنة لا الغلبة الفئوية. دفاعه عن موقع رئاسة الحكومة يعكس فهماً دستورياً بأنّ الاستقرار المؤسسي هو شرط أساسي لأي إصلاح اقتصادي أو تفاوض مالي مع الخارج، سواء مع صندوق النقد الدولي أو مع الشركاء الدوليين.
فالرسالة التي وجّهها التيار الوطني الحر عبر رئيسه تتجاوز الحسابات السياسية اليومية، لتؤكد أنّ “السلطة لا تُبنى على كسر ركنٍ من أركان الدولة، بل على تثبيت التوازن بين الرئاسات الثلاث”. وبكلامٍ أوضح: “لن نحمي رئاسة الجمهورية إذا سقطت رئاسة الحكومة، ولن نبني دولة إذا كُسرت إحدى ركائزها الدستورية”.
في المحصّلة، وضع باسيل في خطاب “13 تشرين” خريطة طريق متكاملة عنوانها “البراغماتية السيادية”:
• اتفاق دفاعي يربط أمن لبنان بمصالحه لا بمصالح الآخرين.
• تصويت اغترابي يُحصّن التمثيل الديمقراطي من الانقسام.
• ودفاع عن صلاحيات رئاسة الحكومة لتثبيت معادلة الشراكة الوطنية.
هكذا، يقدّم رئيس التيار الوطني الحر مقاربة جديدة تُعيد لبنان إلى منطق الدولة القادرة لا الساحة المفتوحة. إنها محاولة لإعادة صياغة موقع لبنان في معادلة ما بعد 7 تشرين، بقراءة متوازنة تجمع بين السيادة والتعاون، بين الداخل والاغتراب، وبين القوة والشرعية.
بهذا المعنى، يمكن القول إن خطاب باسيل هو الأبرز منذ خروجه من الحكومة، لأنه لا يكتفي بالتوصيف أو التذكير بالمبادئ، بل يرسم معادلة سياسية جديدة للبنان: دولة متوازنة، قوية بشراكتها، ومحصّنة بسيادتها.